تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قراءة في تأملات بطريرك القدس: بين النص والواقع

تطبيق حكمة الإنجيل في واقع فلسطين
قراءة في تأملات بطريرك القدس

قراءة وإعداد: هيئة التحرير "نبض الحياة"

يقدّم الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، قراءة عملية لمثل الوكيل غير الأمين (لوقا 16: 1-13) في تأمل الأحد الخامس والعشرين من الزمن العادي، رابطًا إياه بمثل الابن الضال، ومبرزًا الانتقال من إدراك الإنسان لضعفه وخطئه إلى خطوات عملية للرجوع وإعادة بناء العلاقات. يوضح التأمل أن الإنسان بطبيعته معرض للإهدار، فالابن الأصغر أهدر ميراث أبيه، والوكيل أهدر ممتلكات سيده، وما يربط بينهما هو الوعي بالخطأ والسعي لإيجاد مخرج، ما يفتح الباب لفعل حكيم وعملي يعيد ترتيب الحياة والعلاقات.

ثلاثة عناصر مركزية تتجلى في التأمل: الإهدار الذي يكشف ضعف الإنسان، صورة البيت كرمز للرجوع والملاذ، وفعل الوكيل غير الأمين الذي، رغم طمعه، يمكّنه من بناء شبكة دعم عبر تخفيف أعباء الآخرين ومسامحة ديونهم. وهكذا يتحوّل الفعل الاجتماعي إلى مدخل للرحمة، وإلى فهم أوسع لما يسميه يسوع "المساكن الأبدية" (لوقا 16: 9)، التي تُفتَح بالمحبة المتبادلة والعمل المشترك، لا بالانغلاق الأخلاقي أو التمسك بالممتلكات.

التأمل بين النص والواقع

تشهد فلسطين اليوم واقعاً قاسياً. فبين الحصار الذي يخنقها وإجراءات التهجير القسري المستمرة، يعيش أبناؤها على وقع عنف وتدمير وقتل. وفي طيات هذا المشهد نجد أيضًا مصادرة الأراضي والتضييق على حرية الحركة، إلى جانب تفشّي البطالة وضغط الهجرة على العائلات والشباب. كل ذلك يجعل من تأمل بطريرك القدس أكثر حيوية وإلحاحاً؛ فهو لا يكتفي بوصف الوضع بلسان الروح، بل يرسم خطابًا إنجيلياً يطالب بالتحرّك والاهتمام الحقيقي.

يربط التأمل بين نص الإنجيل والواقع اليومي، فلا يكتفي بالمعنى الروحي المجرد، بل يضعنا أمام معاناة الناس كما هي على الأرض. ففي ظل الظروف التي تمر بها فلسطين، تظهر هذه المعاناة في وجوه المسيحيين والمسلمين على حد سواء في القدس وغزة والضفة الغربية، لتتحول الكلمة الإنجيلية إلى مرآة تكشف محن الحاضر. بهذا يصبح القارئ والشريك في التأمل قادرًا على إدراك حجم المأساة بشكل نقدي، ليس كنظرة نظرية، بل كحقائق ملموسة تحث على التعاطف والعمل العملي لمواجهة الألم والظلم.

الكنيسة كملاذ إنساني

حين يشير البطريرك إلى فعل الوكيل في المثل — استخدامه بعض ممتلكات سيده لتخفيف أعباء الآخرين وبناء علاقات — يتجلى معنى عملي يمكن ربطه بالواقع: تحويل الكنائس والمؤسسات الكنسية إلى ملاذات إنسانية وسط الأزمات. فمفهوم محبة الجار وخدمة الآخرين كما جاء في الإنجيل يقتضي فتح الأبواب أمام الفارين والمشردين، كما يظهر في كنيسة العائلة المقدّسة للاتين في غزة التي تحوّلت إلى مأوى لمئات النازحين. لا تقتصر رسالة الرحمة التي يطرحها التأمل على البعد الروحي وحده، بل تتحول إلى عمل ملموس يوفّر حماية للإنسان أمام العنف والألم. فالمؤسسات والكنائس التي تتفاعل مع هذا المثل تصبح ملاذًا حقيقيًا، حيث يجد الناس الأمان والرعاية تحت مظلة المحبة التي أظهرها المسيح، منتقلًا بالإنسان من شعور بالغربة إلى تجربة القرب والطمأنينة.

الحكمة والرحمة

يشدد البطريرك في تأمله على أهمية التصرّف بحكمة ورحمة في حياتنا اليومية، إذ يظهر في مثل الوكيل غير الأمين كيف يمكن استخدام ما نملك لتخفيف أعباء الآخرين وبناء علاقات دعم متينة. هذا النداء ليس مجرد فكرة روحية، بل دعوة عملية لتطبيق الإنجيل: الاعتراف بالخطأ، البحث عن مخرج للضعف، ومساعدة الآخرين في حمل أعبائهم. من منظور لاهوتي، يعكس ذلك روح المسيحية في الاهتمام بالآخرين وإعادة بناء الثقة، بما يتوافق مع معنى المحبة والرحمة الذي يسعى الإنجيل إلى تعليمه.

مبادرات ملموسة للرجاء

الربط بين التأمل والتطبيق العملي يتجلّى بوضوح فيما قام به الكاردينال بيتسابالا في الآونة الأخيرة، إذ تحوّلت كلماته من كونها محصورة على المنابر إلى مبادرات ملموسة على الأرض. شملت هذه المبادرات إعفاء ديون المدارس الكاثوليكية في إطار سنة اليوبيل لتخفيف الأعباء والضغط المالي عن العائلات، وفتح أبواب مؤسسات الكنيسة لتكون مركز دعم للمحتاجين والمشردين وتوفير أماكن إيواء وخدمات إنسانية أساسية لهم كما في غزة، إضافة إلى توفير فرص عمل للشباب من خلال شراكات ومبادرات تؤمن تدريبات مهنية ووظائف لمئات الشبان العاطلين عن العمل، ليشعروا بفاعليتهم في بناء المستقبل.

بهذه الخطوات تبني الكنيسة الكاثوليكية جسراً بين الإيمان والعمل، وتجعل من تأمل الإنجيل وسيلة لإضاءة أحزان الحاضر وتحويلها إلى بذور أمل. فالنص الديني لم يعد نصاً روحيا معزولاً، بل رسالة مباشرة تواجه الواقع الراهن بشجاعة وثبات.

في ضوء ذلك، يمكن قراءة دعوة بطريرك القدس كوقفة إنجيلية وسط محنة معاصرة، حيث يرسم للكنيسة صورة جديدة لدورها، ليست كباب عتيق مغلق، بل كنور منفتح على المتألمين، ولا كهدف للمبشرين والكهنة فحسب، بل أيضًا كمحفّزة لحركة روحية نشيطة في قلب التاريخ. المعاناة الراهنة في الأرض المقدّسة تؤكد أن الإنجيل ليس مجرد رواية من الماضي، بل نداء مستمر يحرك ضمائرنا، ويدفعنا نحو خدمة أخوية حقيقية، ويفتح آفاقًا للرجاء والعمل المشترك رغم الألم.