
الطيبة- نبض الحياة: كتب الأب فارس سرياني بمناسبة عيد تجلي الرّب:
يَقولُ مَطلَعُ الْمَزمورِ الثّالثِ وَالتِّسعين: ﴿الرَّبُّ مَلَكَ والجَلالَ لَبِس. لَبِسَ الرَّبُّ العِزَّةَ وتَمَنطَقَ بِها﴾ (مز 1:93). أَيُّها الأحبّة، عِيدُ التَّجَلّي هوَ عِيدُ إِظهارِ العِزَّةِ الإلهيّة، وَالجَلالِ الرُّبوبيّ، الّذي هوَ لِلمَسيحِ الإله، مُنذُ الأزلِ وإلى الأبد. وَإنْ كَانَت عِزّتُهُ الإلهيّة، قَدْ احْتَجَبَتْ نَوعًا مَا، عِندَ تجسُّدِه، إلّا أَنّها كَانَتْ دَومًا حَاضِرةً فيهِ دُونَ انْقِطَاع، وَكَانَ يُظهِرُها بينَ الفينَةِ والأُخرَى، تمامًا مِثلَمَا أَظهَرَهَا بِأبهى صُوَرِهَا في حَدَثِ التَّجَلّي. فَهوَ، كَمَا نُعلِنُ في قانونِ الإيمان: ((إلهٌ مِنْ إله، نورٌ مِن نور، إلهٌ حَقْ مِن إلهٍ حَق، لا فَناءَ لِمُلكِهِ)).
أَظهَرَ الْمَسيحُ مَجدَهُ بِحُضورِ قُطْبَيِّ العَهدِ القديم: مُوسَى الْمُشْتَرِع وَإيليّا كَبيرِ الأنْبِيَاء، لأنَّ الْمَسيحَ هوَ خُلاصَةُ الشَّريعَةِ وَزُبدَتُها، وهوَ تمامُ النُّبُوءاتِ وَتَحقيقُهَا. أَضِفْ إلى ذلِك، أَنَّ اللهَ في العَهدِ القَديم قَدْ تَجَلَّى لِهذَينِ القُطْبَين. فَفي سِفرِ الخُروج، تَجلّى اللهُ لِمُوسَى عَلَى طُورِ سِينَاء، حَيثُ أَعطَاهُ الوَصايا. (راجع خر 16:19-21). وفي سِفرِ الْمُلوكِ الأوّل تَجلَّى اللهُ لِإيليّا عَلَى جَبلِ حوريب (سيناء)، مُشَدِّدًا إِيَّاهُ لِلْمُضيِّ قُدُمًا في حَملِ الرّسالَةِ الإلهيّة، دُونَ فَزَعٍ وَبِلا خَوف (راجع 1مل 9:19-18).
أَظهرَ الْمَسيحُ مَجدَهُ أَمَامَ ثَلاثةٍ مِنْ تَلاميذِهِ: بُطرسَ هَامَةِ الرُّسل، والأخَوَين يَعقوبَ ويُوحنَّا ابْني زَبَدى. وَكَمَا أَنَّ اللهَ كَانَ يَتَجَلَّى فَوقَ الجَبل، عَلامَةً عَلَى الرِّفعَةِ وَالجَلال، كَذَلِكَ الْمَسيحُ الّذي هوَ: ﴿شُعاعُ مَجدِ اللهِ وَصورَةُ جوهَرِهِ﴾ (عبرانيّين 3:1)، يَتَجَلَّى أَمَامَهُم فَوقَ جَبلٍ عالٍ مِنْ جِبَالِ فِلَسطين. وَمِثلَما أنَّ اللهَ قدْ عَهِدَ برسالةٍ وَمَهمَّةٍ لِمُوسَى وَإيليّا عِندَ التَّجلّي، فَكَذلِكَ الْمَسيحُ الّذي هو: ﴿كَلِمةُ الله صارَ بَشرًا﴾ (يوحنّا 14:1)، يَعهَدُ لِتَلاميذِهِ بحَملِ بُشرَى الْمَلَكُوتِ لِلأُمَم، حتّى نِهايَةِ العالَم (راجع متّى 16:28-20). وَعَليه، تَجَلِّي الْمَسيح، الإلهِ الْمُتَجَسِّد، في العَهدِ الجَديد، مَا هُوَ إلّا استِمرَارٌ لِتَجلّي اللهِ في العَهدِ القَديم.
أَضِف إلى ذلك، أنَّ الْمَسيحَ لَمْ يَأخُذْ التَّلاميذَ الثّلاثةَ مَعَهُ لأنَّهُ كَانَ يحتاجُ إلى رِفقةٍ مَثَلًا، بَلْ اِصْطَحَبَهُم لِهَدَف! فَالتَّجَلّي يا أَحِبّة لِلمَسيحِ هوَ حالَةٌ طَبيعيَّة، أَمَّا لِلتّلاميذِ وَلَنَا نحنُ فَالتَّجلّي هوَ دَعوَة! دَعوَةٌ للارتِقَاءِ وَالسُّمو، بِأَنْ يَظهَرَ اللهُ فِينَا، وَيَتَجَلَّى مِنْ خِلالِ حياتِنا. وَكيفَ يَكونُ ذلِك؟ بالتّبَدُّلِ والتَّغييرِ مِنَ الحالَةِ الأرضِيّةِ وَتَعَلُّقاتِها، إلى الحالَةِ السَّمَاويّةِ وَتَبِعاتِها.
وَهَذا مَا يَصِفُهُ بُولسُ الرّسولُ في الرّسالةِ إلى أَهلِ قُولِسّي، قائِلًا: ﴿اِسْعوا إلى الأُمورِ الَّتي في العُلى، حَيثُ الْمَسيحُ قد جَلَسَ عَنْ يَمينِ الله. اِرْغَبوا في الأُمورِ الَّتي في العُلَى، لا في الأُمورِ الَّتي في الأَرض. فَقَدْ خَلَعتُمُ الإِنسانَ القَديم وَخَلَعتُم مَعَهُ أَعمَالَهُ، وَلَبِستُمُ الإِنسَانَ الجَديد﴾ (قول 1:3-2، 9-10).
وإذا كانَ الْمسيحُ الّذي تَجلَّى أَمَامَ تلاميذِه، قَدْ سَارَ في دَربِ الآلام، فَكذلِكَ طريقُنَا نحنُ إلى الْمَجدِ الّذي سَيَتَجَلَّى فينَا، هيَ طَريقٌ مَرصوفَةٌ بالآلام! فَالتَّلاميذُ عَايَنوا مجدَ الْمَسيحِ لَحظةً، لَكِنَّهُم لَم يَدْخُلوه حينَها، إِلّا بَعدَ أنْ اِجتَازوا دَربَ الآلام، عَلَى مِثالِ الْمَسيح، الّذي أَشارَ إلى ذلِكَ حينَما خَاطَبَ يَعقوبَ وَيُوحَنَّا قَائِلًا: ﴿أَمَّا كَأَسي فَسَوفَ تَشرَبانِها﴾ (متّى 23:20)، أي كَأسِ الآلام. وَهوَ الأمرُ الّذي أَوضَحَهُ لَنا بولسُ في رسالتِهِ إلى أَهلِ رومة: ﴿لأنّنا إذا شَاركناهُ في آلامِهِ، نُشارِكُهُ في مَجدِه أيضًا﴾ (رو 17:8).
نحنُ في هذهِ الحياة، في مَرحَلةِ صُعودِ الجَبل، حَتّى بُلوغِ القِمَّة يومًا، أَي ساعةِ الّلقاءِ الأبديِّ مَع الله. وهذهِ الْمَرحَلَة لَيسَت سَهلَة، إِنّما تحتاجُ لِكثيرٍ مِن الجُهدِ والْمُثابَرةِ الرّوحيّة. وكُلُّ جُهدٍ يَعني تَعبًا وَمَشَقَّة، يَعني تَضحيَةً وَاسْتِعدادًا، يَعني مُوَاظَبَةً واستمرارًا، يَعني أَلَمًا وَصَليبًا. لِذلك، الحياةُ مع الْمَسيحِ لَيسَت مُجرّدَ تَجلّياتٍ وَتَسهِيلات، إنّما فيها كَثيرٌ مِن التَّحدِّيات والصُّعوبَات، وَاجْتِيازُها لا يكونُ إلّا لِلثّابِتينَ الأشدّاءِ في إيمانِهم!
فالجَبَلُ، وإنْ تَعرَّضَ للعواصِفِ والأنْوَاء، إِلّا أنّهُ يبقَى راسِخًا ثابِتًا. وَالْمَسيحيُّ الحَقيقيّ كَالجَبل، تَضربِهُ عَواصِفُ الحياةِ وَنَوائِبُها، وَتجتاحُهُ شَدائِدُها، إلّا أَنَّهُ يَظلُّ قَويًّا ثَابِتًا، بالْمَسيحِ وفي الْمَسيحِ الّذي هوَ القاعِدَةُ وَهوَ الأسَاس.
أخيرًا يا أحبّة، حَدَثُ تجلّي الْمسيح، يُذكِّرُنا بِسموِّ دعوتِنا. يُذكِّرنا بِأنَّنَا لَسنَا مُجرّدَ كَائِنَاتٍ أَرضيّةٍ تُرَابِيَّة، خُلِقَتْ فَقَطْ لِتَأكُلَ وَتَشربَ وَتَتَزواجَ وَتَتَكَاثَر ثُمَّ تَموت. إنّمَا نحنُ أَسمى مِن ذَلِكَ كَثيرًا. نحنُ أَبناءُ الله، خَليقتُهُ الأسمى. وَمَا يزيدُنا سُموًّا وَرِفعةً هوَ إيمانُنَا بالْمَسيحِ وَاتِّباعُنَا للمَسيح. وَلِذلك، وَجَبَ عَلينَا أن نحيَا حَياةَ الْمَسيح، مُتَجَلِّينَ في البرارةِ والنَّقاءِ وَالوداعةِ والْمَحَبّةِ والسَّلام، وكلِّ مَا كَانَ شَريفًا وَنَزيهًا.