
بيروت - درَسَ توفيق دياب اللاهوت والكتاب المقدّس، وانطلقَ يُبشّر بالمسيح منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، فعاش للكلمة وعاشت فيه. يُعدّ من مؤسِّسي جماعة «رسل الكلمة» التي تسير على خُطى مرشدها الروحيّ العلّامة الراحل الأب بولس فغالي. يُطِلّ عبر «آسي مينا» ليكشف لنا هويّة المبشّر وأهمّ السمات التي يجب أن يتحصّن بها، انطلاقًا من اختباره الحيّ ورسالته التبشيريّة.
يتساءل دياب: «من هو المبشّر الحقيقيّ؟ هل هو الخطيب البارع؟ هل هو حامل الكتاب المقدّس بين يديه، والمعلومات اللاهوتيّة في الذهن؟ أم إنّه ذاك الذي سكنتْ فيه الكلمة، فحوّلته إلى رسالة حيّة تمشي بين الناس؟ أنا لا أشهد اليوم من منطلق فكريّ أو دراسة نظريّة وحسب، بل من مسيرة خمسة وثلاثين عامًا في البشارة، إذ عشتُ لأجل الكلمة، وحملتُ الإنجيل على كفّي وفي قلبي».
ويردِف: «بمرور الزمن، اكتشفتُ أنّني لم أكن أنا من يحمل الكلمة، إنّما هي التي حملتني، وسارت بي إلى أماكن لم أكن أحلم بدخولها، إلى وجوه لم أعرفها، وإلى قلوب انتظرتْ يسوع من خلال شاهدٍ بسيطٍ آمن فقط بقوّة الكلمة. في عمق هذه المسيرة، أدركتُ حقيقة أساسيّة، هي أنّ الله لا ينتظر الإنسان في مكان معيّن ليبدأ عمله فيه، بل يأتي إليه أينما كان، في ضعفه، في ارتباكه أو في يوميّاته البسيطة. كلّ إنسان، أيًّا تكُن خلفيّته أو وضعه أو تاريخه، مدعوٌّ ليكون شاهدًا، لأنّ الدعوة لا ترتبط بالمكان إنّما بالله الذي يختار ويحوّل ويُرسِل».
نارٌ مُحرِقة
ويكشِف: «المبشّر هو التلميذ أوّلًا؛ إذ إنّ البشارة لا تبدأ من المنبر بل من اللقاء الشخصيّ والحيّ مع الربّ يسوع، فرأينا ماذا حدث للسامريّة التي حين لمستْ نظرة يسوع المفعمة بالحنان، تركت جرّتها على الفور، وركضت إلى المدينة، قائلة: "هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ" (يو 4:29). كما أنّ المبشّر لا يروّج فكرة معيّنة، بل يشهد لحياة اختبرها حتّى غيّرته في الصميم. الكلمة نار تشتعل في القلب، وهذا ما اختبره أرميا الذي صرخ: "فَكَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ مَحْصُورَةٍ فِي عِظَامِي، فَمَلِلْتُ مِنَ الإِمْسَاكِ وَلَمْ أَسْتَطِعْ" (إر 20:9)».
ويواصل حديثه: «البشارة تولد من جوع للكلمة، وتستمرّ في عطش دائم لها، فحين نأكل الكلمة، تصير هي خبزنا، نورنا، وقوّتنا… فكيف لا ننقلها؟ الشهادة الحقّة ليست حكاية إنّما حياة: "الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ، نُخْبِركُم بِه" (1 يو 1:1-3). الشهادة المسيحيّة ليست نقل معلومة، بل إعلان لقاء حيّ مع المسيح. والمبشّر الحقيقيّ لا يتّكل على كلماته فحسب، بل على أثر الكلمة في حياته ووجدانه. من هنا، تصبح البشارة صدى تجربة شخصيّة، تتجلّى وتتعمّق كلّ يوم».
ويُوضِح دياب: «كتَبَ القدّيس بولس: "صرنا صغارًا في وَسَطِكُم، كما تُرضع المُرضِعَة أولادها" (1 تس 2:7). من صفات المبشّر ألّا يعلو على من يكلّمه، لأنّه أخ، خادم، رفيق درب، يعرف أنّ كلّ قلب يُفتَح بقوّة المحبّة، لا باستخدام أسلوب الفصاحة. إنّ أكثر ما نحتاج إليه هو الحنان الذي يحمل الحقّ».
إلى انقِضاء الدَّهر
ويقول: «انطلاقًا من اختباري الحيّ، وفي حضن من دعاني بعد ثلاثة وخمسين عامًا من البشارة، أعترف بثقة: لستُ أنا من صمد، بل هو من ثبت فيّ. فكم من مرّة أحسستُ بالضعف أو الخذلان، لكنّني كنت أعود إلى وعده الثمين: "هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ" (متّى 28:20). هذا الوعد هو سند لحياة البشارة، ويفتح الأبواب، ويعطي الكلمة في حينها».
ويختِم: «يا ربّ، أنا أحمل كلمتك منذ سنوات عدّة، في ضعفي ووسط الدموع، وهي كانت وما زالت قوّتي وعزائي. لم أكن فصيحًا ومثاليًّا، لكنّني كنتُ دائمًا أمينًا للنداء الذي زرعته في قلبي. أشكرك لأنّك استخدمت إنسانيّتي لتُرسل نورك، وأصلّي حتّى تبقيني شاهدًا حتّى النفس الأخير، لا بكلماتي فحسب، بل بحياتي، وسجودي، وصمتي. اجعلني يا ربّ أبشّر بالمحبّة، وأُشعل نار كلمتك في قلوب عطشى، كما أشعلتها في قلبي منذ البدء. آمين».
المصدر: د.امال شعيا، آسي مينا.