تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الإيمان الكاثوليكيّ حاضرٌ في قلب المغرب

المغرب

مراكش - في ثقافة يطغى عليها الدين الإسلاميّ، تُواصِل الجماعة الكاثوليكيّة في المغرب مسيرتها بتواضع وثبات، شاهِدةً للمسيح. 

«يا أبتِ، أُسلّمكَ ذاتي... أنا مُستعِدٌّ لكلّ شيء، وأقبل كلّ شيء». هناك ركعتُ ساجدًا في الرباط، محاطًا بنحو 800 طالب جامعيّ من عشرات الدول الإفريقيّة، يُرنّمون «صلاة التسليم» التي كتبها القدّيس شارل دي فوكو منذ 130 عامًا. هو كان ضابطًا فرنسيًّا مُتقاعدًا، ولُقِّب بـ«شارل ليسوع». سافر إلى المغرب عام 1883 مُنتحِلًا صفة يهوديٍّ مغربيّ، ورسم خرائط للبلاد متوغّلًا في أبعد مناطقها. كان عاشقًا لمنطقة شمال أفريقيا، ولا يزال أثره واضحًا في صلوات مئات الشباب الذين اجتمعوا في عطلة نهاية أسبوع ملؤها الصلاة والتواصل، استضافتها أبرشيّة الرباط.

كنيسةٌ تفاجئ كثيرين

قد يبدو هذا المشهد في المغرب مختلِفًا عمّا يتخيّله معظم الناس. فعند ذكر اسم هذه المملكة، قد تتبادر إلى الذهن صور الأسواق الملوّنة والتلال الرمليّة. ويبدو أنّ قلّةً قليلة تُدرك وجود كنيسةٍ نابضة هنا، أساسها الشهادة، نَمَت بفضل رهبانيّات كرّست حياتها للخدمة، وتستمرّ بفضل إيمان الشباب. 

تبلغ نسبة السكّان الكاثوليك في المغرب أقلّ من 1 في المئة، ويبلغ عددهم حوالى 30 ألفًا. واعتناق المسيحيّة غير مُستَحبٍّ من الناحية الاجتماعيّة، في حين أنّ «التبشير» ممنوعٌ قطعًا. ويُشكّل الطلّاب الوافدون من دول أفريقيا جنوب الصحراء، الغالبيّة العظمى من الكاثوليك في المغرب. وفي رعيّتي التي تتّخِذ القدّيس فرنسيس الأسيزي شفيعًا، في فاس، ينتمي المسيحيّون إلى نحو 30 جنسيّةٍ مختلفة، وجميعهم تقريبًا طلابٌ في العشرينات، يدرسون منذ سنوات عدّة. عندما أتيتُ للمرّة الأولى إلى المغرب بصفتي طالبًا في جامعة جورج ماسون، لدراسة اللغة العربيّة، لم أكن أعلم أنّني سأجد حياةً كنسيّة مزدهرة. 

شهداء ومرسلون

الكنيسة الحديثة في المغرب متجذّرةٌ بفضل عمل الرهبانيّات التي عبرت مضيق جبل طارق. فالقدّيس فرنسيس نفسه اختار خمسة إخوة ليحملوا الإنجيل إلى المغرب. وقد وصلوا إلى مراكش عام 1220، وبشّروا بالإنجيل في الأسواق. وبعد محاولات فاشلة لطردهم إلى أوروبا، تدخّل السلطان بنفسه وقطع رؤوسهم. ومن الشخصيّات المحوريّة الأخرى في المغرب، القدّيس شارل دي فوكو. أُعلِنت قداسته عام 2022، وهو الشفيع المحبوب لكنيسة المغرب. ولا تزال روحانيّة الرهبانيّات المستوحاة من حياته تعكس تقدير دي فوكو العميق لمنطقة شمال أفريقيا ولإخوته المسلمين. وفي مدينة فاس حيث أمكثُ، تُقيم أربعٌ من أخوات يسوع الصغيرات، في الحيّ التاريخيّ.

رهبانيّات في الخدمة

في كلّ رعيّة زرتُها، رأيتُ رجالًا ونساءً مُكرَّسين لخدمة الجماعة. والتقيتُ «راهبات المحبّة» في طنجة، ومجموعة من الفرنسيسكان في مراكش، وأمضيتُ يومًا مع إخوة فرنسيسكان في مكناس. غير أنّ اللقاء الذي ترك فيّ أثرًا عميقًا حصل في مدينة وجدة على الحدود الجزائريّة، حيث يخدم ثلاثة كهنة مُرسلين من جماعة «كونسولاتا». وأخذني الآباء في جولةٍ إلى مركزهم حيث يخدمون المهاجرين الذين يدخلون إلى المغرب.

ورغم الأخبار المستمرّة عن المرض والمشقّة والموت في خلال رحلات المهاجرين الخطيرة، كانت علامات الفرح ظاهرة على وجوههم. وقد فتح المُرسَلون أبوابهم بسخاء لكلّ محتاج، وهم يقدّمون رعاية طبّية مجّانية، وطعامًا، ومأوى. وفي القدّاس مساءً، صلّوا بحرارةٍ ليستجيب الله صلوات المهاجرين.

بين الماضي والحاضر

في يوم «تذكار الموتى المؤمنين»، رافقتُ كاهن رعيّتي في فاس الأب ماتيو ريفيللي وبعض أبناء الرعيّة إلى المقبرة المسيحيّة المحلّيّة لمباركة القبور. معظم أسماء المتوفّين فرنسيّة، لكن قرأتُ أيضًا أسماء إسبانيّة وإيطاليّة وألمانيّة. وبالقرب من قبور جنود قضوا في الحرب العالميّة الثانية، أشار الكاهن إلى قبور نحو 90 راهبةً قدّمن حياتهنّ في خدمة فاس.

واليوم، أتشارك مع طلاب رعيّتي اللحظات السعيدة: فالجوقة تنظّم أمسيات على مدار العام، وجماعة «فرسان العذراء» تنسّق احتفالاتٍ مريميّة في مايو/أيّار، ومجموعة «التجدّد بالروح القدس» تُحيي سهرات صلاة ليليّة. ويحرص كاهننا على تلاوة صلاة الإفخارستيا بلغات مختلفة.

قد تبدو حياة الكاثوليكيّ في المغرب أحيانًا معزولة، لذلك تؤدّي الجماعة الكنسيّة دورًا محوريًّا في هذا الصدد. المغرب بلدٌ شعبه متديّن، ويتجلّى الإسلام في جوانب الحياة كافّة. لكنّ البلاد تتميّز بتاريخ عريق من التسامح. ويحترم السكّان الديانة المسيحيّة، بل يبدون فضولًا للتعرّف إلى إيماني المسيحيّ.

الصوم والفصح

في الربيع الماضي، قضيتُ أوّل زمن صومٍ وعيد فصح في المغرب. وقد تزامن الصوم مع شهر رمضان، فقرّرتُ أن أحاول الصوم على الطريقة الإسلاميّة. امتنعتُ عن الطعام والشراب من الفجر حتّى الغروب. كان اختبارًا جميلًا ساعدني على الاتّحاد مع إخوتي المسلمين، وفتح حوارات رائعة عن الإيمان والصوم والصلاة.

ثمّ حلَّ أسبوع الآلام، وكانت المرّة الأولى التي أعيشه فيها بعيدًا من عائلتي. دهِشتُ لجمال مشاركة المؤمنين في فاس بآلام المسيح. وفي اليوم التالي، في خلال قدّاس صباح عيد الفصح، حضر عددٌ من المسلمين المغاربة لمعاينة أجواء احتفالنا. وبعد القدّاس، أسرعتُ إلى البيت لأقيم وليمة، وحرص عدد من أصدقائي المسلمين على تهنئتي بعيد الفصح.

مشاركة الحياة والإيمان

حين ارتفع الأذان من مساجد فاس القديمة، وقفتُ أتأمّل المشهد. كنتُ محاطًا بأصدقاء كاثوليك من خلفيّات متعدّدة، وبأصدقاء مغاربة أعزّاء، نضحك ونتقاسم الطعام، ونحتفل بعيد الفصح وأنا أبعد آلاف الأميال عن موطني. فتذكّرتُ كلمات دي فوكو: «يكفي أن نعيش بين الآخرين، ونتشارك معهم إنسانيّتنا، ونكون حاضرين بمحبّة». وهذا بالضبط ما قدَّمتهُ لي كنيسة المغرب.

المصدر: آسي مينا / باتريك بيري