
الطيبة- نبض الحياة: كتب الأب فارس سرياني عن يوم الاحد بعد خميس الصعود: عيد جسد الرب وَدمِه الأقدَسَين
أَيُّها الإخوَةُ والأخواتُ الأحبّاء في الْمسيحِ يَسوع. تحتفِلُ الكَنيسَةُ في الخَميسِ الثّاني الواقِعِ بَعدَ عيدِ العَنصرَة، بعيدِ جَسدِ الرّبِّ وَدمِهِ الثَّمينَين. وَلأسبَابٍ رَعَويّة، يُنقَلُ الاحتِفالُ لِيَومِ الأحدِ الّذي يَلِي. هَذا العيدُ يُذَكِّرُنا بِمركزيّةِ سرِّ الإفخارستيّا في حياةِ الكَنيسة، جماعةِ الْمؤمنين. فالإفخارستيّا، سرُّ القربانِ الأقدس، هو مِحورُ عِبادَةِ الكَنيسة، لأنّهُ يُمثّلُ الحُضورَ الحقيقيَّ لِسيِّدِنا يَسوعَ الْمسيح، مِن خِلالِ هذا السرِّ العَظيم، الّذي تُحيطُهُ الكَنيسَةُ بِمُنتَهى الإكرامِ والتّوقير.
وَمُنذُ نَشأتِهَا، عَمِلَتْ الكَنيسةُ بِما أَوصَاهُ بِها الربُّ يَسوع. فَنَقرَأُ في سِفرِ أَعمَالِ الرّسل، في الفَصلِ الثّاني والفصلِ العَشرين، كَيفَ أَنَّ الجَمَاعَةَ الأولَى، كانَت تَلتَئِمُ لِكسرِ الخبزِ وَالصَّلَوات (أع 42:2 + 7:20)، صَانِعَةً لِذكرِ يَسوع، مَا سَبَقَ أَنْ صَنَعَهُ هوَ. فالْمَسيحُ يَسوع وَضعَ أَركانَ سرِّ القُربان، ليلةَ العَشَاءِ الأخيرِ السَّابِقِ لِمَوتِه، لِيبقَى مَعَنَا بَقَاءً حَقيقيًّا، طُولَ الأيّامِ والدُّهور.
وَالكَنيسةُ الكاثوليكيّةُ مُستَقيمَةُ العَقيدَة، تُعلِّمُ بوضوحٍ أنَّ الخُبزَ والخَمرَ، باستدعاءِ الرّوحِ القُدس وتِلاوَة الكَلامِ الجَوهَريِّ، يُصبِحانِ بالحَقيقةِ جَسَدَ وَدَمَ سَيّدِنَا يَسوعَ الْمسيح. وهوَ مَا نَدعوه: عَقيدَةَ الاستِحَالَةِ الجَوهريّة. فَالعوارِضُ والأشكالُ تَبقَى عَوارِضَ وأشكالَ الخُبزِ وَالخَمر، وَلَكِنَّ الجوهرَ يَتَحَوّلُ لِيصيرَ جَسَدَ وَدمَ الْمَسيحِ الأقدَسَين! وكلُّ تَعليمٍ يَدّعي بأنَّ حُضورَ الْمَسيحِ في القُربانِ الأقدَس، هوَ حُضورٌ رَمزيٌّ صُوَريّ، لا جوهريٌّ وَحَقيقيّ، هوَ تَعليمٌ مَغلوطٌ وهرطَقَةٌ يجبُ رَفضُهَا تمامًا.
وهُنا أقتَبِسُ بَعضًا مِمّا جاءَ في تَعليمِ الْمَجمعِ التريدنتيني (1545-1563)، حَولَ سِرِّ الإفخارستيّا، يَقول: "في سرِّ الإفخارستيّا الْمُقَدَّسَة، بعدَ تَقديسِ الخُبزِ والخَمر، سيّدُنا يسوعُ الْمسيح، الإلهُ الحقّ والإنسانُ الحق، حاضرٌ حُضورًا حَقيقيًّا وَجوهَريًّا، تحتَ شَكليِّ هَاتينِ الحَقيقَتينِ الحِسّيَّتَين... بِما أنَّ الْمسيحَ قَال، إنَّ مَا يُقَدِّمُهُ تحتَ شَكلِ الخُبزِ، هوَ في الحَقيقةِ جَسدُه، فَبِتَقديسِ الخُبزِ والخَمر، يَتَحَوَّلُ الخبزُ كُلُّهُ إلى جَوهرِ جَسدِ الْمَسيحِ ربِّنَا، وَجَوهرُ الخَمرِ كُلِّهِ إلى جَوهرِ دَمِه." (الكَنيسةُ الكاثوليكيةُ في وثائِقِها/ رقم 1636، 1642)
وفي الوَقتِ الّذي تُبرِزُ فيهِ تَعاليمُ الكَنيسةِ الكاثوليكيّةِ عَظَمَةَ هَذَا السّرّ، شَهِدنَا مُؤخَّرًا مَوجَةَ مُمارَسَاتٍ مُؤسِفَة، تَنتَقِصُ مِنْ كَرامَةِ سرِّ القُربَان، وَتُقلِّلُ مِنْ احتِرامِه داخِلَ الكّنائس! وَتَبقَى جَائِحةُ كورونا ذَريعَةً أَساسيّةِ، أَدَّتْ إلى هَكذَا مُمارسَاتٍ، جَعَلَتْ مِنَ القُربانِ الأقدَس مَصدَرَ فَزعٍ وَخَوف، عِندَ قَليلي الإيمان. وَلَسَوفَ يُسَاءَلُ عَنها مَنْ كَانوا سَببًا في غَرسِهَا وانْتِشارِهَا، أَساقِفَةً وكهنةً وَمُكَرَّسينَ وَمؤمنين.
وَمِن هُنا نُذكّرُ بِأنَّ الطّريقةَ الْمُثلَى لِقُبولِ سِرِّ القُربانِ الأقدس، هيَ بالسُّجودِ أَمَامَ رَبِّ العِزّةِ اَلحاضِرِ حَقًّا، وَبالفمِ مُبَاشَرةً لا باليَد. وَمِن هُنا، نحثُّ جَميعَ الْمؤمنين، عَلَى التّوقُّفِ عَن استخدامِ اليَدِ في قُبولِ الْمُناوَلةِ الْمُقَدَّسَة، فَالقربانُ لَيسَ سَببَ عَدْوَى وَنَشرِ أَمراضِ! وَلو كَانَ كذلِك، فَلِمَاذا قَضَى الكثيرونَ نَحبَهم (ماتوا) بالكورونا، وقَدْ كَانوا يَتَنَاولونَ باليد؟! وَالأجزاءُ الصَّغيرةُ مِن جَسدِ الْمَسيح، الّتي رُبَّمَا سَقَطَتْ مِن يدِك سَهوًا دُونَ انْتِباه، كُنت أَنتَ وأنتِ السّببَ في أنْ تَدوسَها الأقدامُ وَتُهَان!
قَالَ الرّبُّ في إنجيل يوحنّا: ﴿مَنْ أَكَلَ جَسَدي وَشرِبَ دَمي، فَلهُ الحياةُ الأبديّة﴾ (يو 54:6). وبالكورونا ظَنَّ كَثيرونَ خَطَأً أَنَّ جَسدَ الربِّ وَدمَهُ سَبَبُ مَوتٍ، نَاقِضينَ كَلامَ الْمَسيح! فَعَلَى كُلِّ هَذِهِ الانتِهاكَاتِ والإساءاتِ الّتي صَدَرَتْ عَنِ الْمُؤمنين، عَلَى اختلافِ مُسَمَّياتِهم وَمَواقِعِهم، نَسأَلُ اللهَ الرّحمةَ والغُفران.
وَبمَا أنَّنَا نَتَحَدَّثُ عَنِ الرّحمةِ والغُفران، فَدَعونا نُذكِّرُ بالرّابطِ الجَوهريِّ القَائمِ بَينَ سرِّ الإفخارستيّا وَسِرِّ الْمُصَالحةِ والاعتراف. فالإفخارستيّا لا تُقبَلُ بِشَكلٍ سَليمٍ إلّا بالاعتِراف. فالاعتِرافُ هوَ الّذي يُمهِّدُ قُلوبَنَا وَيُهيّئُ نُفوسَنا، وَيجعلُ مِنها بُيوتَ قُربانٍ طاهِرَة نَقيّة، يحلُّ فيها يَسوعُ الْمسيحُ في سرِّ القُربان! وفي هذا الشّأنِ كَتبَ الرّسولُ بولسُ يَقول: ﴿مَنْ أَكَلَ خُبْزَ الرَّبِّ أَو شَرِبَ كَأسَهُ، ولَم يَكُنْ أَهْلاً لَهُمَا فَقَدْ أَذنَبَ إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِه. فَليَختَبِرِ الإِنسانُ نَفْسَه، ثمَّ يَأكُلْ هَكَذا مِن هَذا الخُبْز، وَيَشرَبْ مِنْ هَذِهِ الكَأس. فَمَن أَكَلَ وَشَرِبَ وَهوَ لا يُمَيِّزُ جَسَدَ الرَّبّ، أَكَلَ وشَرِبَ الحُكْمَ على نَفْسِه﴾ (1قورنتوس 27:11-29)
وفي هذا الشأنِ أَيضًا يَقولُ الْمَجمَع التريدنتيني: "بِقَدرِ مَا يَكتَشِفُ الْمسيحيُّ قَداسَةَ هذا السّرِّ السَّمَاويِّ وَمِيزتِه، يجبُ عَليهِ أن يحرِصَ كُلَّ الحرصِ عَلَى أَنْ لا يَتَقرَّبَ لِيَتَقبَّلَهُ إلّا باحترامٍ شَديدٍ وَقَدَاسَة. لِهذا يجبُ تذكيرُ مَنْ يُريدُ التَّنَاولَ بالوصيّة: ﴿فَلْيختَبِر الإنسانُ نَفسَه﴾ (1قورنتوس 28:11). لِكَي لا يَقترِبَ أَحَدٌ مِنَ الإفخارستيّا وَعلى ضميرِهِ خَطيئةٌ مُميتة." (الكَنيسةُ الكاثوليكيةُ في وثائِقِها/ رقم 1646، 1647).
وَمِنْ هُنَا أُوجِّهُ رَسائِلَ ثَلاث: الأولَى رِسَالَةُ احتِرامٍ لِكُلِّ مُؤمنٍ صَادِق، مَعْ نَفسِهِ وَرَبِّه، ويُدرِكُ أَنَّهُ لا يَستطيعُ التّناولَ دُونَ اعتِرَاف. والثّانيةُ رِسَالةُ حَثٍّ لِهؤلاءِ الصَّادِقين، أَلّا يخسَروا نِعمةَ القُربانِ بِسَببِ خَطاياهم، بَلْ أَنْ يَتَقَدَّموا مِنْ سِرِّ الْمُصَالحةِ والاعتراف، وَيَقبَلوا الرّبَّ في الْمُنَاوَلةِ قُبولَ بَركةٍ وَنِعمَة.
أَمَّا الرّسالَةُ الثَّالِثَةُ فَهيَ رِسالَةُ تحذيرٍ وَخِشيَةٍ عَلَى الْمَصير، لِكُلِّ الّذينَ يُنَزِّهونَ أَنفُسَهم، كَالفريّسيِّ الّذي لَم يَنزِل إلى بَيتِهِ مَبرورًا في ذلِكَ اليَوم (راجِع لوقا 9:18-14)، وَيَرفُضونَ الإقرارَ بخطيئتِهم، والرّجوعَ عَنْ مَعصيَتِهم، وَطَلَبَ الغُفران، وتَجِدُهم أَوَّلَ الْمُصْطَفّين لِلْمُناولَة، أَنْ اِحذَروا سَاعَة الغَفلَة، يَومَ تُقبَضُ أَرواحُكُم، وتَجَدونَ أَنفُسَكُم في حَضرةِ الدَّيانِ العَادِل، حيثُ لا يَنفَعُ البُكاءُ وَصَريفُ الأسنان، وَتَصيرونَ صَيرورةً أَبَديّةً إلى مَثوَى الأموَاتِ وَالهلاكِ الأبَديِّ في جَهَنَّم!