كي لا ننسى ... هناك فلسطينيون مسيحيون في القدس

مسيحيون فلسطينيون

كتب: حازم نسيبه وزير خارجية ورئيس المحكمة العليا، وعضو في مجلس الاعيان الاردني سابقا: 

كنت قد أشرت في مذكراتي "المقدسيون...ذاكرة حية" الى حي الطالبية في القدس الغربية، والذي كان خلال سنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، الحي العربي المسيحي الأكثر عصرية، خارج البلدة القديمة، جنبا إلى جنب مع حي القطمون وحي البقعة العلوي والسفلي.

لقد شكلوا مجتمعا مزدهرا ومتطورا ومتماسكا من العرب الفلسطينيين المسيحيين، وكانوا متساوين تقريبا مع نظرائهم من العرب المسلمين من حيث العدد، ويعيشون جنبا إلى جنب في علاقة صداقة وحسن جوار.
أنا شخصيا أعرف الكثير من تلك العائلات، وكانت لي معهم صداقات وثيقة.
وسألقي هنا طيفا من الضوء على تلك العائلات، لأظهر للقارئ كيف ان هذا المجتمع المنفتح، والحيوي، والمتعلم والمثقف، والمحب للسلام، والمتحضر قد تعرض للتدمير بين عشية وضحاها، مما أدى الى تشتت أبناء هذا المجتمع في جميع أنحاء العالم، في ظل مؤامرة من الصمت وعدم الاكتراث بمصيرهم، ومصير مواطنيهم المسلمين في القدس الكبرى، وذلك خلال شهر أيار 1948.
ومنذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية في شهر حزيران 1967، كان هنالك ومع مرور الوقت تراجعا متسارعا الوجود العربي المسيحي في مدينة القدس.

واسمحوا لي في هذا السياق أن أذكر بعض تلك العائلات المسيحية البارزة والأفراد المميزين أيضا:
لقد كنت على علاقة صداقة وثيقة مع عائلة طنوس، التي كان منزلها يقع في حي الطالبية وكان واحدا من أكثر بيوتها أناقة. كان سليمان طنوس رجل أعمال ناجح للغاية، وممثل لشركة "جنرال موتورز" في فلسطين والأردن، وكان ابنه جورج زميلا لي في الجامعة الأمريكية في بيروت. كانت عائلة سليمان تضم أيضا زوجته اللطيفة دوللي، وشقيقه فؤاد وزوجته تانيا. أما الطبيب البارز عزت طنوس، فكان لسنوات عديدة ممثلا معروفا لفلسطين في الأمم المتحدة.

كان أحد أفراد عائلة فراج الكبار، وهو يعقوب فراج، نائبا لرئيس بلدية القدس الموحدة في سنوات الثلاثينات، وكان فؤاد فراج زميلا لي في مجلس الوزراء الأردني في الستينات. أما عائلة جمال، بما يشمل ابنيها تيدي وإدي، فأقامت أعمالا تجارية مزدهرة.
أتذكر أيضا، عائلة الراحل إدوارد سعيد، الكاتب واللغوي الفلسطيني البارز، الذي كتب، من بين الكثير من الأعمال الأخرى، كتاب "خارج المكان"، وهو كتاب السيرة الذاتية الأكثر قراءة.
أتذكر جيدا مكتبة بولوس سعيد ومخزن القرطاسية في باب الخليل، الذي كان مركز التسوق الرئيسي للعرب واليهود ابان سنوات الثلاثينات.

كما ذكرت سابقا، كان أنطون عطا الله قاضيا مميزا، وأصبح في وقات لاحق وزيرا للخارجية في الأردن، في حين كان منير عطا الله رجل أعمال رائد في الأردن، متزوجا من السيدة اللطيفة أوديت.
كما علمت أن أحد أفراد عائلة عطا الله كان بطريركا للكنيسة الأرثوذكسية قبل نحو 500 سنة، قبل أن يتم الاستيلاء عليها من قبل الهيئة الكهنوتية اليونانية، في ظل النظام العثماني.

ثم كانت هناك أيضا عائلة سنونو، التي شغل أحد أبنائها منصب كبير موظفي البيت الأبيض في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
ومن عائلة حنانيا، كان أناستاس حنانيا قاضيا، ثم شغل في وقت لاحق منصب وزير المالية في الحكومة الأردنية ومنصب سفير الأردن في لندن، وكان ابنه داود حنانيا، وهو الرئيس السابق لمدينة الملك حسين الطبية، رائدا في عمليات جراحة القلب المفتوح في العالم العربي.

وكانت عائلة الديب تملك، زمن الانتداب البريطاني، امتياز استخراج الملح من البحر الميت.

كما كان غابي وريمون ديب بطلين في لعبة التنس. وتجدر الإشارة الى ان مبارياتي مع ريمون على ملاعب التنس في جمعية الشبان المسيحية في القدس كانت تشهد دوما منافسات حامية.
ومن الجدير بالذكر، ان رولاند مايو كان بطلا لفلسطين في التنس لثلاث سنوات متتالية، على الرغم من أنني تمكنت من الفوز عليه ذات مرة في الدور نصف النهائي.

أما بالنسبة لعائلة السكاكيني، فإن عميدها خليل كان واحدا من أهم التربويين في القدس، وما تزال كتبه تدرس في المدارس.
وقد عرفت أيضا ابنه ساري وابنته هالة، وكانا من ضمن الدائرة الاجتماعية المعروفة لكاتي أنطونيوس، والتي قدمت الكثير من أجل قضية فلسطين.
اما اميل غوري، الامين العام للجنة العربية العليا، فقد مثل فلسطين في الامم المتحدة خلال مناقشة قرار التقسيم سنة 1947.
وكان سامي خوري جراحا بارزا وذو إنجازات كبيرة، وكان صديقا مقربا. وهو من مواليد مدينة نابلس، وترعرع في القدس، دارسا في مدرسة سانت جورج.
كما شغل شفيق منصور منصب رئيس قسم في جمعية الشبان المسيحية، مع الإشارة الى انه كان واحدا من الاعضاء ال (100) المؤسسين للجمعية.
كان هنري قطان فقيها مميزا ألف عدة كتب حول القضية الفلسطينية ووضعها من وجهة نظر القانون الدولي.
كما كانت هناك عائلة مجج، وبذكر أمين مجج، فقد شغل منصب رئيس بلدية القدس في أعقاب الوحدة مع الأردن خلال الفترة 1949-1950.

اما يعقوب جوري فقد عمل ممثلا مقيما للأمم المتحدة في العراق ومنطقة البحر الكاريبي وبلدان أخرى.
وكان يوسف بيدس رجلا ذكيا ولامعا، فقد أسس بنك إنترا بعد وقوع النكبة عام 1948 مباشرة، وكان واحدا من أهم الشركات في الشرق الأوسط في الخمسينات وأوائل الستينات.
ورغم ذلك، تآمرت قوى وخصوم في لبنان عام 1966 من اجل إسقاط البنك، على الرغم من ان أصوله كانت كبيرة وتفوق بكثير التزاماته.

كان هناك تداول وضغوط على البنك، مما تسبب في نقص الرصيد النقدي، بينما تغاضى البنك المركزي عن مساعدة البنك مما تسبب في تراجع وانهيار بنك إنترا أخيرا.
اما عائلة الحلبي فكانت تعمل في مجال المستحضرات الصيدلانية، وأتذكر تماما ومنذ الطفولة صيدلية أنطون الحلبي الواقعة في باب العمود (باب دمشق)، وهو أحد المداخل الى البلدة القديمة من القدس.
كان عيسى نخلة محاميا مميزا، وقد مثل فلسطين لعدة سنوات في الأمم المتحدة، ومن الجدير بالذكر ان نخلة قام بإعداد خلاصة وافية وفريدة عن القضية فلسطين ككارثة شعب، تعتبر أقرب إلى الموسوعة.
لقد اقتلع هذا المجتمع الذي يملك كل هذه المهارات والإنجازات بتاريخ 15/5/1948، من قبل آلة حرب جبارة اجتاحت أحياء منزوعة القدرة العسكرية، ومواطنين عزل تماما.
وبهذا فرض على كل واحد من المهجرين أن يسعى إلى مستقبله في أماكن أخرى وان يبدأ حياته من جديد.

 

المصدر: "جوردان تايمز"