تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

التغيير الروحي والسياسي: رؤية الكاردينال بيتسابالا لقيادة جديدة في قلب صراعات الأرض المقدسة

الكاردينال بيرباتيستا بيتسابالا، البطريرك اللاتيني في القدس

بقلم: سند ساحلية

في ظل الواقع المعقّد للأرض المقدسة في فلسطين، المليء بالصراعات السياسية والدينية والعرقية، يكرّر الكاردينال بيرباتيستا بيتسابالا، البطريرك اللاتيني في القدس، في أكثر من مناسبة دعوته إلى ضرورة ظهور قيادات سياسية ودينية جديدة، معتبرًا هذه الخطوة شرطًا أساسيًا لتحقيق السلام والاستقرار.

وتتجاوز هذه الدعوة حدود المواقف السياسية، إذ تنبع من رؤية روحية عميقة وتجربة طويلة في خدمة الكنيسة والمجتمع، وتجسد التزامه بالدعوة إلى خدمة الآخرين كما علّم يسوع في الإنجيل: " مَن أَرادَ أَن يكونَ كبيرًا فيكُم، فَلْيَكُنْ لَكم خادِمًا" (متى 26:20)، مؤكدًا أن القيادة الحقيقية تقوم على الخدمة والتضحية من أجل الآخرين وليس على السلطة والتسلط.

تنبع هذه الدعوة من الواقع المعقّد في فلسطين، حيث تتقاطع النزاعات التاريخية مع الاحتلال، وتتعمّق الانقسامات السياسية الداخلية، إضافة إلى الفجوة بين السلطات الدينية والسياسية. وقد أدّى هذا المشهد إلى تراجع الثقة بالقيادات التقليدية واتساع الهوّة بين المجتمع المدني ومراكز صنع القرار، كما أصبح الحوار بين الطوائف والأديان أكثر هشاشة وضعفًا. ويؤكد بيتسابالا أن استمرار هذا الوضع يهدد فرص المصالحة ويجعل تحقيق السلام بعيد المنال، خصوصًا بالنسبة للجماعة المسيحية التي تمثل أقلية في الأرض المقدسة وتتحمّل تبعات هذه الأزمات بصورة مضاعفة.

من منظور روحي ولاهوتي، يرى بطريرك القدس أن القيادة الحقيقية هي خدمة وليست سلطة، وأن مسؤولية القائد تتمثل في حماية الكرامة الإنسانية وتعزيز قيم العدالة والمحبّة والمصالحة. وتستند هذه الرؤية إلى تعليم الكنيسة الكاثوليكية حول الكرامة الإنسانية والطبيعة المتكاملة للعلاقات الإنسانية، حيث خُلق الإنسان ليعيش في محبة وعطاء متبادل تجاه الآخرين.

ويشير بيتسابالا إلى أن القيادة، كما يعلّم الكتاب المقدس؛ أن تكون انعكاسًا لمحبة الله وعمله في العالم، مستمدة من وصايا المحبة والعدالة: " أَحِبُّوا بَعْضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم" (يوحنا 12:15)، و" طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون" (متى 9:5). ومن وجهة نظره، يجب ترجمة هذه المبادئ الروحية إلى أفعال عملية على المستويين الاجتماعي والسياسي، لضمان حماية حقوق الإنسان وتعزيز التناغم والوئام بين المجتمعات.

ويشير الكاردينال بيتسابالا إلى أن القيادة الجديدة يجب أن تسعى إلى إعادة بناء سرد مختلف يقوم على الاحترام المتبادل والحوار البنّاء، بما ينسجم مع رؤية الكنيسة للسلام والعدالة. وهذا يتوافق مع دعوة يسوع في الإنجيل إلى الوحدة والشفاء بين البشر، كما قال في صلاته: " فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك" (يوحنا 21:17). فهذه الوحدة ليست مجرد اتفاق أو تنسيق سياسي، بل وحدة روحية وأخلاقية في المحبة والعمل المشترك، تهدف إلى تجاوز الانقسامات القديمة، وإحلال المصالحة والعدالة والسلام.

تشمل الأسباب التي تدفع بطريرك القدس إلى هذه الدعوة أيضًا التحديات الداخلية للجماعة المسيحية، مثل هجرة الشباب، وتراجع الثقة بالقيادات التقليدية، وانحسار المشاركة المجتمعية. وَتُفَاقِمُ الاضطرابات المستمرة بين المكوّنات الدينية الأخرى الحاجة الماسّة إلى قيادات جديدة تتسم بالجرأة والرؤية، لإحداث تغيير إيجابي وخلق بيئة أكثر أمانًا تُتيح مساحات حقيقية للوئام بين الجميع.

من منظور روحي أعمق، يرى الكاردينال أن هذه الدعوة تتجاوز مجرد تغيير الأشخاص، لتشكل إعادة تأسيس ثقافة القيادة على أسس أخلاقية وروحية. فالقيادة، بحسب بيتسابالا، يجب أن تكون قوة تحمي الأقليات، وتكفل حقوق جميع الطوائف، وتعزز قيم المواطنة، وتفتح آفاقًا جديدة للانفتاح وتقبل الآخر، مستمدة من مبادئ الكنيسة حول العدالة والمصالحة والحوار بين الأديان، كما يعلمنا الكتاب المقدس: " العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة. فهٰذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه" (متى 23:23).

باختصار، تمثل دعوة الكاردينال بيتسابالا انعكاسًا لتقاطع الواقع المعقد في الأرض المقدسة مع خبرته الكنسية الطويلة ورؤيته اللاهوتية والإنجيلية، التي تعتبر القيادة الجديدة أداة لإحياء السلام، وإعادة الأمل، وضمان مستقبل أفضل لجميع المجتمعات في المنطقة. إنها دعوة إلى تغيير عميق، سياسي وروحي في آن واحد، يهدف إلى بناء أرض مقدسة تقوم على العدل والرحمة والسلام الحقيقي، مع التأكيد على الدور المحوري للقيادة المسيحية في صون القيم الإنسانية والروحية.