تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"كيف نحيا بلا خوف؟" بين كاتبي نبؤة ارميا والإنجيل الأوّل

د. سميرة

الطيبة- نبض الحياة: كتبت د. سميرة يوسف سيداروس في ايطاليا، "كيف نحيا بلا خوف؟" بين كاتبي نبؤة ارميا والإنجيل الأوّل

"لا تخاف!" إنها كلمة يسوع الـمُلِّحة الّتي يتردد صداها في هذا الأسبوع بحسب الرسالة النبويّة لدى ارميا (20 : 10-13) جزء عن سيرته الذاتية في موضوع حالة الاستغواء الّتي يجد النبي ذاته منحصراً فيها بسبب إخلاصه لكلمة الرب. مدعوين لنتعلم كتلاميذ يسوع على ضوء النص النبوي إلى التحلي بالجراءة واللا خوف من الوقوف بالقرب من الله وكلمته. على ضوء هذا سنتابع في قرائتنا سيّاق خطبة يسوع التبشيريّة الّـتي نوهنا عنها الأسبوع الماضي، حينما دعا يسوع تلاميذه للذهاب وتبشير الآخرين بدون خوف (مت 10، 26-33).

 

1. من الإغواء إلى الإستغواء (ار 20: 10- 13)

تساعدنا روايّة بمحسب نبؤة إرميا في فهم ما يعلنه لنا الكتاب المقدس هذا الأسبوع. إنه نص يبدو غريبًا ومتميزًا في ذات الوقت. غريب، لأنه مزعج بسبب إستخدام الكاتب لكلمات ربما تظهر لنا سلبية وهي العزلة، والتخلي، والانتقام. مُدركًا أنّ الصلاة والتسبيح لا يمكنها فقط أنّ تقف جنبًا إلى جنب، بل يمكن أن تكون أيضًا كتابًا مقدسًا، أثرًا لمرور الله على دروب البشر، كلمة دائمًا موجهة إلى كل إنسان. هذا النص أيضًا متميز بسبب إدركنا صعوبة هذه الكلمات البشرية الحقيقية والقاسية! وبالفعل أمام هذه الكلمات، فإن أيّ شخص يؤمن بإله بعيد ومطمئن يوّد أنّ يهرب، ولكن المؤمن الّذي إلتقى بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وكان جاداً في مسيرته مع الله، لازال مدعو ليكتشف الكثير. مثير لنا اليّوم مثل إرميا الّذي ظلّ نموذجًا لكل مؤمن يعيش بأمانة لكلمة مسموعة لا تُنسى (راج إر 20: 9). يطلق النبي على تجربته اسم الإغواء والخداع في علاقته بالرّبّ (راج إر 20: 7). هذه تعبيرات خطيرة، إذا اعتقدنا بأنّ النبي يشير بها إلى الله، إرميا يوّد الهروب، لكنه لا يستطيع! لا يستطيع، ليس لأن أحدًا ما أجبره، ولكن لأنّ الكلمة تدوي، اللقاء مع يهوه، أصبح سببًا لنار مشتعلة بباطنه (إر 20: 9) ، شيء لا يمكن احتواؤه ولا يمكن كبته!  هل هناك سبيل للخروج من هذا الموقف؟ ربما لا يوجد مخرج، وربما لا تشير آيات إرميا إلى أيّ شيء، لكنها بالتأكيد تصف بإخلاص ووضوح المسّار الذي سلكه النبي، وهو طريقه الباطني والبشري للغاية، ولكنه لا ينسى رفيقه غير المريح الله، ولكنه لا ينفصل.

 

2. صراع النبي (أر 20: 10- 13)

ما هي مراحل طريق إرميا؟ إذ تتبعنا الآيات 10-13 بالإصحاح العشرون، نجد قمة صراعه المرتبط بعلاقته مع الله. ينطلق إرميا من مرحلة مريرة حقًا إلا إنها حتّمية لتُفرغ ما بقلبه تجاه الله. تشير هذه الآيات إلى قراءة قاسية للواقع (آ 10). إرميا لا يبحث عن الهرب من واقعه، بل يراه، ويسمعه، ويلمسه، ويتألمه. يروي اليّوم على مسامعنا تجربته بطريقة ما تجعلنا نسمع تلك الأصوات الّتي يسمعها هو ذاته وتهدد من حوله. يروي على مسامعنا ما يسمعه وما يراه ويتمثل في سماعه لأصوات مُعادية تتآمر ضده فيقول: «لَعَلَّه يُستَقْوى فنَقْوى علَيه ونَنتَقِمُ مِنه» (ار 20: 10). يرى النبي أولئك الّذين كانوا قريبين منه في السابق يحومون حوله ليستغلوا مصيبته: « أَصدِقائي الحَميمونَ كُلُّهم يَترقَّبونَ سُقوطي» (20: 10). إنها صورة نزع سلاح تمامًا بل صورة تحمل الرعب في الجوار! ولكن من هنا يبدأ إرميا اختباره لله الّذي إنطلق من صراع معه! لا يوجد طريق حقيقي مع الله لا يبدأ من الصراع، دون تجربة طرق أسهل ولكنها خادعة تتنكر أحيانًا كطرق للإيمان والثقة، ولكن في الواقع الروحانيات الّتي لا تحترم الإنسان ولا الله غير مُجدية.

 

3. هل الله موجود؟ (20: 12- 13)

من هذه القراءة الأوّلية والصحيحة لوضع النبي، يمكن لإرميا أن يخطو خطوة إلى الأمام، ويمكنه اكتشاف وجودالحضور الإلهي بقوله: «لكِنَّ الرَّبَّ معي» (20: 11) والانفتاح على الله بثقة، يجعل ارميا يكتشف أنه ليس وحده في معركته: الرب والإله  بجانبه كمحارب شجاع مخيف. الخطوة الثانية لإرميا هي اكتشاف من يوجد معه وبجانبه من الآخرين. مَن شعر بالوحدة، هرب من إله لا يستطيع أن ينساه، يشعر بأنه مُحاطًا بأشخاص معاديين، تم التخلي عنه وتقويضه حتى من قبل الأصدقاء. الآن يكتشف وجود متميز إلى جانبه في هذا الصراع ليس النبي وحده، إلهه، الّذي أراد الهروب منه، يقاتل معه، بل لأجله!

 

لـمَن هذا الوجود الّذي اكتشفه النبي من جانبه؟ تولد الخطوة الثالثة لإرميا: الصلاة « أَنشِدوا لِلرَّبِّ، سَبِّحوا الرَّبّ لِأَنَّه أَنقَذَ نَفسَ المِسْكين مِن أَيدي فاعِلي الشَّرّ» (20: 13). صلاته هي أيضًا صادقة للغاية وتحرجنا إلى حد ما، لأنها تحتوي أيضًا على مشاعر الانتقام. ومع ذلك ، فهي صلاة تنشأ من اكتشاف وجود الله، ويعرف الله بأنه مَن يثبت الحقّ. هذا الذي يتحدث عنه إرميا ليس معرفة تنشأ من تحقيق عقلاني، فالله لا يعرف الإنسان بعد البحث، ولا يختبر الإنسان، ولكن بحكم التعريف لديه معرفة لا حدود لها بالإنسان (راج مز 139)، يتفحص «الكُلى والقُلوب»، أيّ المشاعر والعواطف والذكاء، عقلانية الإنسان كله في أعماقه، في الجزء الخفي الذي لا يراه أحد! ما لا يستطيع أحد رؤيته، وما هو مخفي هو بذاته الوضع الكشوف لله، الذي يعرفه بعمق، ومكان اللقاء معه في الحقيقة. ثم يأتي التسبيح أخيرًا من الصلاة المشبعة بالرجاء لمن يشعر بفحص عميق من قبل الله (راج آ13). فقط أولئك الذين يجدون أنفسهم معروفين بعمق من قبل الله يمكنهم الآن الانطلاق إلى حرية التسبيح فقط أولئك الأحرار قادرون على مدح أولئك الذين يعرفون أنه ليس لديهم ما يخفونه أمام إلههم لأنهم يعلمون أن نظرتهم ليست كنظرته. أولئك الذين جربوا، واستقصوا، واختبروا، لكن أولئك الذين عرفوا وأحبوا بعمق!

 

4. أصل الحدث (مت 10: 26- 33)

سأعود قليلاً معكم لمعرفة سبب كلام يسوع في المقطع (10: 26- 33) الّذي سنتعمق فيه. يروي الإنجيلي بالإصحاح السابق بحدث يضفي بنور على جوهر المقطع: «ما إِن خَرَجا [يسوع وتلاميذه] حتَّى أَتَوه بِأَخرَسَ مَمسُوس. فلَمَّا طُرِدَ الشَّيطانُ تَكَلَّمَ الأَخرَس، فأُعجِبَ الجُموعُ وقالوا: لَمْ يُرَ مِثْلُ هذا قطُّ في إِسْرائيل! أمَّا الفِرِّيسيُّونَ فَقالوا: إِنَّهُ بِسَيِّدِ الشَّياطين يَطْرُدُ الشَّياطين» (9: 32- 24). لذا يروي الكاتب مباشرة قبل سرد المقطع بقول يسوع: «فإِذا لَقَّبوا ربَّ البَيتِ بِبَعلَ زَبول، فَما أَحْراهم بِأَن يَقولوا ذلك في أَهْلِ بَيتِه؟» (10: 25). ثم يعلن صراحة بقضية جديدة، مؤكداً بالنفي اولاً ثم بالإيجاب قائلا: «لا تَخافوهُم إِذاً! فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم. لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم[...] أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه. لا تَخافوا، أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافيرِ جَميعًا» (مت 10: 26- 33). لا داعي للخوف من الرّوح الشرير فهو أضعف من رّوح الله. علينا الإلتصاق بالرّبّ والثقة بأنه حاضر بالرغم من كل صراع فينا لا يراه أحد بل يراه الله فقط. لا تخافوا، هو وعد الله ولا يزال يهمس به في قلوبنا وحياتنا، إذن فلنسمع له، فله وحده الكلمة الأخيرة.

 

الخلّاصة

مع النبي توصلنا لرسالة إلهيّة وبشريّة وهي أنّ الحقيقة، الحضور، الصلاة، التسبيح هي مراحل مسيرة الإنسان في علاقته بالله (ار 20: 10-13). يمكن أن تكون هذه المراحل لكل تلميذ (مت 10: 26- 33) ليسوع. نحن اليّوم مدعوين إلى عدم الخوف من أولئك الّذين لديهم فقط القوة لجعل الجسد يهلك، ووضع حد لكل ما هو ضعيف فينا، ولكن ليس لديهم. القوة على ما يشمل على الانفتاح والرغبة فينا، إدراك ذلك الحضور القوي الذي دائمًا ما يكون إلى جانبنا. حضور يجب "التعرف عليه" (متى 10:32) لكي نشعر بأنه معروف بشكل وثيق ولاكتشاف إنّ شعر رؤوسنا معدود لديّه! نعم اللا خوف ومواجهة الصراع والإستمرار في التسبيح ... رسائل يحملها كلا الكاتبين اليوم لقلب وواقع كل منا. دمتم أيها القراء الأفاضل في تسبيح وصراع حقيقي في حضور الرّبّ.