الحكمة والوداعة

مقال

أِشخين دمرجيان - من تعاليم السيّد المسيح هذه الآية: "كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام".

حالما نشاهد الحمامة أو نذكرها أو نفكّر بها ، نتخيّل حمامة بيضاء اللون تحمل غصن زيتون أخضر نضر والذي أصبح رمزالسلام العالميّ. السلام الذي نفتقر إليه بشدّة لأنّ الكلّ يتغنّى به ولا يُطبّقه .

ما أجمل أن يكون المؤمن فاعلاً للسلام بنشاط، وأن يسهر وينتظر ويترقّب يوميًّا الهامات السيّد المسيح (الماء الحيّ)، مثلما راقبت الحمامة التي خرجت من سفينة نوح مدى تشرّب الأرض للماء كي تعود الى طبيعتها.

أمّا الإنسان الوديع فيتحلّى بالتواضع والصبر واللطف والطيّبة والإخلاص والنقاء والشفافيّة والطهارة والرقّة والمسالمة والمحبّة وبساطة القلب. والوداعة لا تعني الغباوة أو الضعف أو الخنوع أو الخمول أو الميوعة أو الاستسلام.  بل تحمل مع التواضع الصدق والقوّة والحزم والجرأة الأدبيّة والشجاعة والكرامة واحترام الذات وقبول الآخر...وأيضًا تُدافع عن الحقّ والعدل والأخلاق كما أوصى رسول الأمم بولس: "اعملوا للحقّ بالمحبّة" (أفسس 4 : 15).

مثال على ذلك السيّد المسيح نفسه "الوديع والمتواضع": ماذا فعل لمّا رأى باعة الدواجن والبقر والصَّيارفة يتاجرون في الهيكل؟! يقول الكتاب المقدّس: "جَدَلَ سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل، وبعثَر نقود الصّيارفة وقَلب مناضدهم لأنّ المكان مقدّس وليس "بيتاً للتجارة" (يوحنا 2: 13-17). وكان يعلّم قائلاً لهم: أليس مكتوباً "بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" (مرقس 11: 17 ؛ متّى 21: 22). ويسرد الإنجيل المقدّس الأحداث قائلاً: "وسمع الكتبة ورؤساء الكهنة فطلبوا كيف يُهلِكونه، لأَنَّهم خافوه، إِذ بُهِت الجمع كلّه من تعليمه..." (مرقس 11: 18).

هل ينطبق مفهوم صفات وداعة السيّد المسيح علينا؟ هل نستطيع أن نميّز بين الحقّ والباطل ونُعلن عن الحقّ بصراحة وجرأة؟ بل نكيل بمكيالين و"نطبطب" على أخطائنا وأخطاء غيرنا، ونكذب علنًا، ونخون السيّد المسيح بالخدعة الكبيرة التي نعيشها، ويلاحظ رياءنا كلّ مَن حولنا: من أقرباء ومعارف وزملاء وطلاّب علم ولاهوت، وحتّى السيّاح الأجانب!؟ وينقسم الناس إلى قسمين، فئة حكيمة صادقة مع الله والناس، وأخرى تغفل أو تتغافل معنى الوداعة الصحيحة، فتُمعِن في تفسير الوداعة على هواها، مثل الغالبيّة العظمى من البشر. لقد أصبحت الوداعة لدى السواد الأعظم مُرادفة لإخفاء الحقائق والبوح بأنصاف الحقائق والخوف والجبن والتخاذل والتواكل والخمول والبلادة والسلبيّة والكسل. وهذا كلّه يتطلّب مجهوداً ضئيلاً أو لا يحتاج الى مجهود البتّة، مع أنّ أبعاد التربية الروحانيّة والثقافيّة والأخلاقيّة  تتطلّب من كلّ مؤمن  الالتزام بوصايا الله، والعمل بجدّ وهمّة في سبيل الخير العام ، مع المشاركة بحياة المجتمع والوطن.

تُعَدّ الوداعة ناقصة أو باطلة إن لم تكن جذورها راسخة في الحكمة رسوخ الصخر. فالحكمة والوداعة يكمّل أحدهما الآخر بناءً على تعاليم السيّد المسيح. لذلك ربط السيّد المسيح الحكمة والوداعة في تعاليمه قال: "كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام" (متّى 10: 16). والحكمة سبقت الوداعة في تعليمه، ويرد ذكر رمز الوداعة في (نشيد 1: 15 و 2 : 14 ، لو 3 :22).

لقد سئمنا الإجتماعات والإعلانات والقرارات والكلمات والوعود التي كما يقول العامّة "بتوَدّي ما بِتجيب" وكلّها حبر على ورق، وأصبحنا بحاجة اإلى أعمال بنّاءة وإلى فَعَلة صادقين، يضحّون بالكسب المادّي كي يربحوا النفوس ويقرّبوها إلى الله خالق الكون سبحانه تعالى.

صدق السيّد المسيح حينما قال: "إنّ الحصاد كثير، ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده".

خاتمة

حينما يُصبح لدينا العدد الكافي من المؤمنين من علمانييّن ورجال دين، ممّن يربطون الميزتين معًا، أي الحكمة والوداعة بمفهومهما الصحيح، ويوسّعون معرفة المؤمن ومدارك فهمه بتعاليم السيّد المسيح، من خلال تنظيم الدورات والندوات والحث على المطالعة... تتوازن آنئذٍ أمورنا على الكرة الأرضيّة.

حينئذٍ فقط يمتلىء الفراغ الروحاني، فراغٌ أضحى في القلوب عميقًا، وهوّة باتت في النفوس سحيقة... ويتطوّر الإدراك العقلاني الذي تئنّ منه البشريّة وتتوجّع. ويزول تخبّط الناس وضياعهم واغترابهم بشتّى الوسائل... حينئذٍ فقط يُرسل الله "روحه" فيتجدّد وجه الأرض وتتجدّد صورة الانسان الذي براه الخالق "في البرارة وقداسة الحقّ".