Skip to main content

هل حقًا لا يستحق الرحمة... رجل مثل البابا فرنسيس؟

البابا فرنسيس

بقلم: سند ساحلية

في خضمّ الحزن العميق الذي خيّم على العالم بعد رحيل شخصية استثنائية مثل البابا فرنسيس، لم يكن مفاجئًا أن نسمع بعض الأصوات التي تهاجمه بشراسة، وتدعو إلى مقاطعة جنازته، بل وصل الأمر ببعضهم إلى حدّ التهكّم والشماتة، وحتى رفض الدعاء له بالرحمة. وما يزيد هذا المشهد قسوة، هو أن هذه المواقف تأتي من أشخاص يُفترض أنهم يدّعون الحرية ودعاة للمحبة والرحمة، لا للتشهير والإقصاء.

لكن، دعونا نأخذ لحظة للتفكير، لا بعقل الغضب، بل بروح القيم الإنسانية التي تجمعنا جميعًا كبشر، وبروح الإيمان الحقيقي، أيًا كان مصدره.

هل يعقل أن لا يرحم الله إنسانًا مثل البابا فرنسيس؟

هذا الرجل الذي لقّب بـ"بابا الفقراء"، رفض السكن في القصر الرسولي وفضّل العيش في دار الضيافة "بيت القديسة مرتا"، كرمز للتواضع. اختار أن يكون قريبًا من الناس، سكن بين البسطاء، خدم المرضى والمشردين، وبسط قلبه قبل يده للفقراء واللاجئين والمهمشين. نادى بالسلام عندما سكت العالم، ووقف إلى جانب الأبرياء في غزة وغيرها عندما اشتدت المحنة، وقالها بجرأة نادرة: "أوقفوا هذه الحرب، هذا جنون!"

لم تكن بساطته مجرد مظهر، بل كانت أسلوب حياة حتى في وداعه الأخير. أوصى بأن تكون جنازته متواضعة، بلا مظاهر فخامة، تمامًا كما عاش... متجردًا، صادقًا، وراعيًا حقيقيًا لكل إنسان.

منذ بداية حبريته، أعلنها واضحة: "أريد كنيسة فقيرة من أجل الفقراء". وسار على هذا الدرب حتى النهاية. تحدّث بلغة الإنسانية التي تجمع ولا تفرّق، احتضن الجراح، وصلى من أجل المسلمين والمسيحيين واليهود على حدّ سواء. هل هذا هو الإنسان الذي يستحق الهجوم والشماتة؟

بل إن مواقفه الإنسانية الصادقة من العدوان على غزة دفعته إلى مواجهة هجوم شديد من جهات إسرائيلية، وخرجت دعوات تطالب بمقاطعة جنازته، فقط لأنه قال كلمة حق. لأنه وقف مع الأطفال تحت الأنقاض، مع الأمهات الثكالى، مع الوجع الفلسطيني، ولأنه لم يساوِ بين الضحية والجلاد، بل انحاز للحق، ولو كلّفه ذلك غضب المتنفذين.

أليس غريبًا أن يُهاجم البابا من طرفين: من يدّعون الإيمان ويشمّتون به لأنه "ليس على دينهم"، ومن يدّعون الحرية ويهاجمونه لأنه لم يساير روايتهم السياسية؟ وهذا ما يكشف لنا كم كان هذا الرجل صادقًا، وكم كان مؤلمًا لأولئك الذين لا يحتملون الحقيقة.

الرحمة ليست مجرد شعار نرفعه عندما يتطابق الشخص مع قناعاتنا، بل هي امتحانٌ لنا نحن. المسيح علّمنا أن نكون رحماء كما أن أبانا السماوي رحيم، وقال: "طوبى للرحماء، فإنهم يُرحمون" (متى 5:7).

وكذلك جاء في القرآن الكريم: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" (الأعراف: 156)، وفي الحديث الشريف: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". فإذا كنا نؤمن حقًا بإله محبة، فكيف نظن أنه لن يرحم رجلًا أفنى حياته من أجل المحبة والعدالة والحق؟

وإن كان الله لن يرحم البابا فرنسيس، ذلك الراعي الصالح الذي حمل همّ الإنسانية كلها، فمن عساه يرحم بعده؟

فلنصمت قليلاً أمام سرّ الموت، ونتأمل في حياة هذا الإنسان، لا من منطلق العقيدة فقط، بل من منطلق القيم التي تجمعنا كبشر: الرحمة، العدالة، السلام، والمحبّة.

ليكن رحيل البابا فرنسيس دعوة لنا لنتخلّى عن لغة الشماتة، ونقترب من بعضنا بعضًا بروح الأخوّة التي آمن بها ودافع عنها حتى آخر نفس.

لتسترح روحك بسلام، وشكرا على صلاتك ووقوفك إلى جانبنا. ستبقى في قلوبنا وذاكرتنا إلى الأبد.