Skip to main content

أملاك مسيحيي العالم في القدس مهددة بالضياع

القدس

اندبندنت عربية - رغدة عتمه - في وقت كانت فرنسا تسعى إلى تهدئة الأوضاع مع إسرائيل والعمل على خفض التصعيد خلال الأسابيع الأخيرة، بعد سلسلة تصريحات للرئيس إيمانويل ماكرون تنتقد الحرب على غزة ولبنان وتطالب بوقفها فوراً وتجميد إمداد حكومة بنيامين نتنياهو بالأسلحة بعدما أدى استخدامها في القطاع إلى استشهاد آلاف المدنيين وتفجير أزمة إنسانية كبيرة، جاءت زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو لإسرائيل لتزيد الأمور تعقيداً.

بعد ساعات من إشادة بارو بنجاحات إسرائيل "التكتيكية" خلال اجتماعه مع نظيره يسرائيل كاتس في القدس، تحولت الزيارة الودية إلى أزمة دبلوماسية حادة بين البلدين على خلفية اقتحام عناصر مسلحة من الشرطة الإسرائيلية من دون إذن مجمع "الإليونة" الذي يضم ديراً للرهبنة البنديكتية شرق القدس، وتعود ملكيته وإدارته لباريس، واعتقالهم اثنين من الحامية الفرنسية للدير، والرهبنة البنديكتية هي نظام ديني كاثوليكي من مجتمعات رهبانية مستقلة تحترم دور القديس بنديكت.

ومجمع "الإليونة" واحد من المواقع الأربعة التي تديرها قنصلية فرنسا في القدس، منذ منتصف القرن الـ19 إلى اليوم، وتطلق عليها تسمية "الممتلكات الفرنسية في الأراضي المقدسة"، ويعني ذلك وفقاً لمحللين فرنسيين، أنه لا يمكن دخول قوات مسلحة من أي دولة، من دون موافقة السلطات الدبلوماسية في باريس على ذلك.

في أواخر عام 1948 وأوائل عام 1949، ربط تبادل الرسائل المعروف بـ"اتفاقية فيشر- شوفيل" بين الاعتراف الفرنسي بإسرائيل وإقرار الأخيرة بالامتيازات والإعفاءات المتعددة التي كانت تستفيد منها باريس أثناء الحكم العثماني، ولم تصادق إسرائيل على الاتفاق الذي تم التوصل إليه آنذاك بين الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية حول وضع المؤسسات الفرنسية في عهد الدولة العثمانية حتى عام 2005.

وبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، لدى باريس ممتلكات عدة مرتبطة بالمؤسسات الكاثوليكية التي تخدم غالباً أغراضاً دينية وسياحية، وتتحكم في هذه المواقع دبلوماسياً، ولا تعترف فرنسا بالسيطرة الإسرائيلية على القدس الشرقية (ومنها الكنيسة) تماشياً مع القانون الدولي الذي يعدّ المدينة أرضاً محتلة.

كنائس وأديرة

ليست وحدها فرنسا من تمتلك مواقع دينية وسياحية ثمينة في القدس، فإن أكثر من 200 معلم معماري أثري في المدينة تملكها مجموعة من الدول الأجنبية تديرها حكوماتها أو جمعيات رهبانية، تنوعت ما بين كنائس وأديرة ومراكز ثقافية ومدارس ومستشفيات وبيوت ضيافة، فيما تطالب دول أخرى بما تعتبره حقاً لها في المدينة المقدسة، في حين لا تعترف إسرائيل بذلك.

وتُعدّ إيطاليا في مقدمة الدول الأوروبية التي تمتلك مباني عدة مهمة، من بينها مجمع الأرض المقدسة، المعروف بـ"مجمع الآباء الفرنسيسكان" وهو من أقدم المباني في القدس، ويعود بناؤه للقرن الـ19 على أرض تبلغ مساحتها 64 ألف متر مربع استأجرها الآباء الفرنسيسكان من الحكومة العثمانية، وتتضمن إلى جانب مقر الرهبان ومدرسة "تيراسنطة"، مطبعة ومنجرة ومحددة. وتتحكم إيطاليا من خلال الفاتيكان، في ما يسمى "حراسة الأراضي المقدسة"، وهي الهيئة المسؤولة عن إدارة عدد من المواقع الكاثوليكية المقدسة في القدس وفلسطين، إذ تشمل ممتلكات الحراسة مواقع مهمة مثل كنيستي القيامة والعشاء الأخير، وتدار هذه المواقع من قبل الرهبانية الفرنسيسكانية تحت إشراف الفاتيكان.

ومبنى "المسكوبية" أحد أبرز وأهم المباني التي تمتلكها روسيا في القدس، وبني في القرن الـ19 وهو مجمع كبير يتضمن كنائس وديراً ومباني تاريخية استعادتها موسكو بعد مفاوضات مع إسرائيل، مثل "قصر سيرغيه" الذي تحول إلى مقر لـ"جمعية حماية الطبيعة الإسرائيلية". وتملك روسيا أيضاً كنيسة "مريم المجدلية" في جبل الزيتون التي بنيت عام 1885 وتعلوها سبع قباب ذهبية، وبحسب صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن كنيسة القديس ألكسندر نيفسكي في البلدة القديمة جلبت التوترات بين إسرائيل وروسيا، ففي كانون الثاني عام 2023، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية اعتبار هذه الكنيسة من ممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المسجلة باسم حكومة موسكو.

أما معظم المباني اليونانية التي تدار من خلال "بطريركية الروم الأرثوذكس"، فتتوزع داخل البلدة القديمة في القدس وخارجها مثل أحد الأديرة في وادي القلط وبعض الأديرة داخل البلدة القديمة مثل "دير ومدرسة مار متري" و"كنيسة إبراهيم" و"كنيسة القديس يعقوب"، فضلاً عن كثير من الأبنية الصغيرة. وتعتبر الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ثاني أكبر مالك للأراضي في القدس بعد الحكومة الإسرائيلية، فهي تمتلك بحسب دراسات، نحو 30 في المئة من البلدة القديمة وتسيطر على أكبر حصة لطائفة مسيحية في كنيسة القيامة.

وحضرت ألمانيا في القدس بصورة واضحة من خلال مبناها الضخم "الأوغستا فكتوريا" الذي بني عام 1898 على جبل الزيتون والذي حول إلى مستشفى سمي "المطلع" أواخر خمسينيات القرن الـ20، كما تملك الكنيسة البروتستانتية الألمانية مواقع تاريخية عدة في القدس، أهمها كنيسة المخلص في البلدة القديمة وكنيسة "نياحة العذراء" التي بنيت عام 1900 وتديرها إرسالية الآباء البندكتيين الألمانية، إلى جانب "كنيسة الفادي" القريبة من كنيسة القيامة التي بنيت على يد الإمبراطور الألماني نفسه عام 1900، وتقع على أرض وقفية إسلامية تسمى أرض "الموريستان" وهي صاحبة أعلى برج في البلدة القديمة بارتفاع 78 متراً.

ووفقًا لصحيفة "جيروزاليم بوست"، تدير الحكومة الألمانية هذه الممتلكات مع السلطات المحلية الإسرائيلية. ويعود لألمانيا كذلك واحد من أضخم المباني الواقعة شمال باب العمود مباشرة، وبني بين عامي 1900 و1906، ويضم مجمعاً ثقافياً وسياحياً ومدرسة ومكتبة وبيتاً للضيافة، وتديره الحكومة الألمانية بصورة مباشرة.

تضريب الكنائس

وعلى رغم تملكهم في عدد من المواقع الدينية والسياحية والتاريخية في مدينة القدس، فإن المسيحيين يشعرون خلال الأعوام الأخيرة بأنهم مثقلون بسياسات إسرائيلية ممنهجة تتعمد الضغط عليهم لدفعهم إلى الهجرة، خصوصاً مع تصاعد الانتهاكات التي تتعرض لها المقدسات والكنائس والأديرة من اعتداء واقتحامات والتنكيل بالمصلين وتقييد حرية العبادة وإهانة رجال الدين والتعرض لهم من قبل المستوطنين.

وتحدث تقرير اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس (فلسطينية حكومية) عن تزايد ملحوظ خلال عام 2023 في المضايقات والاعتداءات الجسدية واللفظية تجاه المسيحيين في القدس، مشيراً إلى أنه "تم البصق على كاهن أرميني أكثر من 90 مرة"، فيما تعرضت راهبات للبصق مرات عدة. ووثقت الهيئة 24 اعتداء طاول أبرزها الكنائس في الضفة الغربية بما فيها القدس وتوزعت بين تدمير شواهد القبور وخط عبارات مسيئة وعنصرية على جدران الكنائس ومحاولة إحراق بعضها.

وفي الـ23 من حزيران الماضي وبقرار إسرائيلي غير مسبوق، أبلغت حكومة بنيامين نتنياهو رؤساء الكنائس في القدس ويافا والناصرة والرملة بأنها ستتخذ إجراءات قانونية ضدهم بسبب عدم دفع الضرائب العقارية (الأرنونا)، وجاء القرار المثير للجدل الذي تسلمته الكنائس بردود فعل غاضبة بعد ست سنوات من تجميده من قبل نتنياهو، عقب ثلاثة أيام من الاحتجاجات الشعبية وإغلاق كنيسة القيامة في القدس عام 2018.

 واعتبرت منظمة "كنائس من أجل السلام في الشرق الأوسط" أن تضريب الكنائس في الأراضي المقدسة وتحصيل الضرائب على ممتلكاتها "خطوة تهدد استدامة عملها ويمكن أن تسبب ضرراً لا يمكن إصلاحه للكنائس والمجتمع المسيحي والخدمات الاجتماعية المتعددة التي تقدمها، بما في ذلك المدارس والكنائس ودور المسنين والمستشفيات ورياض الأطفال ودور الأيتام، وستضطر الكنائس إلى التوقف عن الاستمرار بتقديم هذه الخدمات الاجتماعية".

أما اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس في فلسطين، فرفضت إجراءات فرض الضرائب على الكنائس وأملاكها في القدس، وأكدت دعمها قرارات البطاركة ورؤساء الكنائس في مواجهة هذه الإجراءات. وعبّر رجال دين مسيحيون وناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن غضبهم إزاء القرار، معتبرين أنه وسيلة لابتزاز رؤساء الكنائس وإجبارهم على بيع أملاك الكنائس أو دفع مبالغ باهظة بعد تراكمها منذ العهد الأردني الذي استثنى الأوقاف الإسلامية والمسيحية من قانون دفع الضرائب. وبحسب تقرير لمركز القدس للدراسات السياسية ومقره الأردن، فإن تمرير قرار جبي الضرائب "سيهدد بعض أملاك الكنيسة في القدس بالمصادرة بحجة تراكم الديون والمستحقات".