Skip to main content

الأحد الرّابع من زمن الفصح الْمجيد - ب

سرياني

الأردن - الأب فارس سرياني - ﴿لا أَخافُ سُوءًا لِأنَّكَ مَعي﴾ (مز 4:23)

نُطلِقُ أَحيَانًا صِفَةَ "رَاعٍ" عَلَى فُلانٍ مِنَ النَّاس، بِقَصدِ التَّقلِيلِ مِنْ شَأنِه! ولَكِنَّ الْمَسيحَ لَهُ الْمَجد، جَعَلَ مِنْ ذَاتِهِ رَاعِيًا: "يَعِرفُ خِرَافَهُ وخِرَافُهُ تَعرِفُهُ". فَالرَّعيُ رِعَايَة، والرِّعَايَةُ اهتِمَامٌ وعِنَايَة، وحِفْظٌ وحِمَايَة. وقَدْ بَلَغَ مِنَ اهتِمَامِهِ بِنَا، أَنَّ هَذَا الرَّاعِي الصَّالِح: ﴿بَذَلَ نَفسَهُ في سَبيلِ الخِرَاف﴾ (يو 11:10)، دَلَالَةً حَقيقيَّةً ومَلمُوسَةً عَلَى مَحَبَّتِهِ لَنَا.

وكَمَا أَنَّ هُنَاكَ رَاعٍ صالِح، فَكَذلِكَ هُناكَ رُعاةٌ غَيرُ صَالِحين، أَطلَقَ الْمَسيحُ عَليهِم لَقَبَ "أَجِير". لِأنَّ الأجيرَ مُنْتَفِع، يَقومُ بِعَمَلِهِ بِدَافِعٍ مِنَ الوَاجِب، وعَليهِ يُحَاسَب. وإنْ تَسَنَّى لَهُ، يُهمِلُ ولا يَكتَرِث، ويُقَصِّرُ ويَستَهتِر. عَلَى هَؤلاءِ الرُّعَاةِ الفَاسِدين، حَلَّ وَعِيدُ الرّبِّ عَلَى لِسَانِ نَبيِّهِ حَزقيال، حِينَ قَال: ﴿وَيلٌ لِلرُّعَاةِ الَّذينَ يَرعَونَ أَنفُسَهم! الضِّعافُ لم تُقَوُّوها، والْمَريضَةُ لم تُداوُوها، والْمَكْسورَةُ لم تَجبُروها، وَالشَّارِدَةُ لم تردُّوها، وَالضَّالَةُ لم تَبحَثوا عَنهَا، وإِنَّما تَسَلَّطتُم عَلَيها بِقَسوَةٍ وقَهْر﴾ (حز 2:34، 4). أَمَّا الرَّاعي الصَّالِح، فَهوَ صَاحِبُ الخِرَاف، يَقومُ بِعَمَلِهِ بِدَافِعٍ مِنَ الْمُبَالَاةِ والْمَحبَّةِ والإِخلَاص.

وإنْ كَانَ الْمَسيحُ مُعَلِّمُنَا قَدْ جَعَلَ ذاتَهُ رَاعِيًا صَالِحًا، فَذلِكَ لِكَي يُعَلِّمَنَا نحنُ تَلاميذَهُ، أَنْ نَكونَ بِدَورِنَا عَلَى مِثَالِهِ رُعَاةً صَالِحين، كُلٌّ في مَكَانِهِ وَزَمانِه، نَحِملُ الرِّسالَةَ الّتي سُلِّمَت إلينَا بأَمَانَة، ونَقُومُ بالْمَهَمَّةِ الّتي أُوكِلَتْ لِنَا باسْتِقَامَة: الكَاهِنُ تُجَاهَ رَعِيَّتِه. الأزوَاجُ تُجاهَ بُيوتِهم. الوَالِدِينَ تُجاهَ أَبنائِهِم. الأبنَاءُ نحوَ والِدِيهم، خُصُوصًا عِندَما يَكبُرونَ ويَضعُفون. الْمُواطِنونَ نَحو وَطَنِهم...

ولَكِن، في كُلِّ مَوقِعِ رِعَاية، تَظَلُّ قابِليَّةُ الإهمالِ والفَسَادِ قَائِمَة! وإذا فَسُدَ الرّاعي تَحَوَّلَ لِأَجير، وعِندَهَا تَزيدُ إِمْكَانِيَّةُ تَشَتُّتِ الرَّعيّةِ وفَلَتَانِهَا. في الفيلمِ الدَّرَاميّ (Gladiator)، يُخَاطِبُ الإمبراطورُ مَاركوس أوريليوس، ابنَهُ الفَاسِد كُومُودس، مُعتَرِفًا: "عُيوبُكَ كَابنٍ هِيَ فَشَلِي كَأَب Your faults as a son is my failure as a father"! يَسْهُلُ عَلَينَا انتِقَادُ رَعَايَانَا، ويَصعُبُ عَلَينَا الاعتِرَافُ بِأَخطَائِنَا وإِهمَالاتِنَا، سَبَبًا مِنْ أَسبَابِ الفَشَلِ والإخفَاق.

وعَليه، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكونَ رَاعِيًا، سَوَاءً أَكَانَ أُسقُفًا أو كَاهِنًا أو راهِبة، أَبًا أو أُمًّا، مُدَرِّسًا أو مَسؤولًا أو حَاكِمًا... عَليهِ أَنْ يُدرِكَ جَيِّدًا، وَيَعِي عَظَمَةَ الْمَسؤولِيَّة، وجَسَامَةَ الأَمَانَةِ الَّتي أُوكِلَت إِلَيه. وأنْ يَملِكَ ضَميرًا مُسْتَنيرًا وقَلبًا وَرِعًا، واضِعًا مَخافَةَ اللهِ نُصبَ عَينَيِه، حَتّى يُمارِسَ سُلطَةَ الرِّعَايَةِ بِكُلِّ مَحبَّةٍ وتَوَاضُع، دُونَ تَكبُّرٍ أو تَجبُّر، عَلَى مِثَالِ الْمَسيحِ رَاعِي الرُّعَاة. هوَ الّذي نَبَّهَ تَلامِيذَهُ قَائِلًا: ﴿مَنْ أَرادَ أَنْ يَكونَ كَبيرًا فِيكُم، فَلْيَكُنْ لَكم خَادِمًا. ومَنْ أَرادَ أَن يَكونَ الأَوَّلَ فيكُم، فَلْيَكُنْ لَكم عَبدًا: هَكَذَا ابنُ الإِنسانِ لمْ يَأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس﴾ (متّى 26:20-28).

أَيُّها الأحِبَّةُ، بالرَّغمِ مِنْ كُلِّ مَا قُلْنَاهُ آَنِفًا، إلَّا أَنَّ الوَقَائِعَ مَرَّاتِ عِدَّة تَكونُ مُغَايِرَة! أَتَى الْمَسيحُ للنَّاسِ رَاعِيًا صَالِحًا. كَانَ لَهُم طَبِيبًا شَافِيًا، وبَلسَمَ عَزَاءٍ ورَحمَةٍ لِنُفوسِهم الْمُتعَبَة. أَشبَعَهُم وأَغدَقَ عَلَيهم الخَيراتِ والنِّعَم! ومَعْ ذَلِك، انْقَلَبُوا عَلَيهِ وخَانُوه، وحَكَمُوا عَليهِ بِأَقبَحِ مِيتَة، حَتَّى قَتَلُوه! الخِرافُ الوَدِيعَة، أَضْحَتْ تُيُوسًا عَنِيدَة، حِينَ تَأَلَّبَتْ عَلَى رَاعِيهَا الطَّيب، رُغمَ أَنَّهُ لَمْ يَصنَعْ لَها سُوَءًا! وبالرّغمِ مِن مَحبَّتِهِ الّلامُتناهِيَةِ وإِخلاصِهِ التَّامِّ لَهَا، إلّا أنَّ الرَّاعي الصَّالِح، يَسوعَ الْمَسيح، لَمْ يَأمَنْ غَدرَ الخِرافِ وخُبثَهَا، إذْ رَدَّت عَلَى الخَيرِ الّذي صَنَعَهُ لَهَا، بِمُنتَهَى الشَّرِّ والأَذِيَّة.

وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإهمَالَ والفَسَاد، قَدْ يَكونُ أَيضًا مِن طَرَفِ الخِرَاف، مِثلَمَا يَكونُ أحيانًا مِنْ طَرفِ الرُّعَاة. يَسهُلُ عَلَينَا جَلدُ الرُّعاةِ حِينَ تُخطِأ وتَزِل، ولكنْ هَل هَذَا يَعني أنَّ الخِرافَ دَومًا هي أفضَلُ حَالًا، بِلا خَطيئةٍ ودُونَ زَلَل؟! الْمَسيحُ كَانَ الرّاعِيَ كُليَّ الصَّلاح، الّذي لم يُقصِّر ولم يُهمِل يومًا، ومَعْ ذلِكَ، خِرافُهُ تَمرَّدَتْ عَليهِ وقَتَلته! يَبحَثُ بَعضُ الرُّعاةِ عَنْ مَصالِحهم الخَاصَّة، مُهمِلينَ شُؤونَ الرَّعِيّة، ولكِنْ هَلْ الرَّعِيَّةُ كُلُّها قَلبُهَا عَلَى بَعضِها البَعض، تَطلبُ الخَيرَ وتُحَقِّقُهُ بَعضُها لِبَعض؟!

خُلاصَةُ القَول: لِلرُّعاةِ أَخطَاءٌ وللخِرافِ أَخطَاءٌ أيضًا. بَعضُ الرُّعاةِ تُهمِلُ خِرافَها ولا تَعرِفُها، وبعضُ الخِرافِ أيضًا تَتَنكَّرُ لِرُعاتِهَا الصَّالِحين، وتُلحِقُ بِهم الشّرَّ والأذيَّة. بَعضُ الرُّعَاةِ تَسعَى لِتَحقيقِ مَنَافِعِهَا الخَاصَّة عَلى حِسابِ الرَّعيّة، وبَعضُ الخِرَافِ تَجحَدُ رُعاتَها الطَّيِبين، بَعدَ أنْ شَبِعَتْ وانْتَفَعَتْ، ولا تَسعى سِوَى لِتَلبِيَةِ أَطمَاعِهَا الشَّخصيّةِ، مُستَكبِرَةً عَلَى بَاقي أَفرادِ الرَّعِيَّة.

وعَليِه، إنْ كانَت الخِرافُ تَطلُبُ رُعَاةً صَالِحين، فَعَلَى الخِرافِ أَيضًا أن تَكونَ صَالِحَةً طَيِّبَة، لِأنَّ الصَّلاحَ أَمرٌ مُتَبَادَلٌ مُطلُوبٌ مِن كِلَا الفَريِقَين.