
الطيبة- نبض الحياة: كتب فارس سرياني عن عظة الأحد السادس عشر من زمن السنة:
﴿جَاءَ عَدوُّهُ فَزَرَعَ بينَ القمحِ زُؤَانًا وانْصَرَف﴾ (متّى 25:13). نحنُ نَعلَمُ أنْ لَيسَ كُلُّ النّاس، يَطلُبونَ الخَيرَ لِغيرِهم مِنَ النّاس! فالإنسانُ مَزيجٌ مُنوَّعٌ مِنَ الْمَشَاعرِ وَالنَّوايا، تختلِفُ باختلافِ الأشْخَاصِ، مَوضُوعِ هَذهِ الْمَشَاعِر، فَلِلبَعضِ أَكُنُّ مَحبَّةً وَمَوَدَّة، وَلِلبَعضِ أَحمِلُ عَدَاوَةً وكُرهًا، وَهكَذا. فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَزرَعُ قَمْحًا أَي يَصنَعُ خَيرًا، وهُم بَنو الْمَلكوتِ وَأَبناءُ الله، فَهُناكَ أَيضًا بَنو الشّريرِ وَأبنَاءُ الْمَعصِيَة، مَنْ يَزرَعونَ زُؤانًا أَي يَصنَعونَ الشَّرَّ وَيَعيثونَ الفَسَاد. هؤلاءِ كَمَا يَصِفُهم صاحِبُ الْمزامير: ﴿فَسَدَت أَعمَالُهُم وَقَبُحَت، وَلَيسَ مَن يَصنَعُ الصّالِحات﴾ (مزمور 1:14).
وَكَمَا يَبدو لَنَا مِنَ خلالِ هَذا الْمَثلِ الّذي يَضرِبُهُ يَسوعُ في إنجيلِ هَذا الأحَد، فَإنَّ صُنعَ الخَيرِ أَو إِتْيَانَ الشَّر، هوَ في الغَالِبِ فِعلُ إرَادَةٍ حُرَّة. فَأنا بِإرادَتي الحُرّة اختَارُ إِمَّا أَنْ أَصنَعَ خَيرًا وَعَمَلًا صَالِحًا، وَإمَّا أَنْ آَتِي شَرًّا وَعَمَلًا أَثيمًا.
أَمرٌ آَخَر يَسترعي الاهتِمَام، أنَّ العدُوَّ اختَارَ أَنْ يَزرعَ الزُّؤان: ﴿بَينَما النّاسُ نائِمون﴾ (مت 25:13). أَي أنَّهُ قَدْ اتَّخَذَ مِنَ الظُّلمَةِ الخَارِجيّة، سِتارًا لِيرتَكِبَ فِعلَتَهُ الغَادِرَة. وَمَا ظَلامُ الخَارِج سِوَى انْعِكاسٌ لِظلامِ البَاطِن، لِظُلمَةِ القَلبِ وَالنَّفس، وَتَغييبِ الضَّميرِ أَو مَوتِه! وَهِيَ بالْمُنَاسَبَةِ نَفسُ الصُّورَةِ الّتي استَخدَمَهَا الإنجيليُّ يُوحنَّا، لِوَصفِ حَالَةِ يَهوذا الإسخَريُوطيّ، لَيلةَ أَسلمَ الْمَسيح، فَيقول: ﴿وكَانَ قَدْ أَظلمَ الَّليل﴾ (يو 30:13). وَهوَ التَّعبيرُ الّذي استَخدَمَهُ القدّيسُ بولسُ في رِسَالتِهِ إلى أَهلِ رومة، لِوَصفِ حَالَةِ مَن أَنكروا الله، فَيَقول: ﴿أَظلَمَتْ قُلوبُهم الغَبيَّة﴾ (رو 21:1).
كَمْ مِنَ القُلوبِ وَالنَّفوسِ حَالُهَا كَحَالِ يَهوذا، تَبدو قَريبَةً مِنَ الْمَسيح، ولَكِنَّها مُظلِمَةٌ بالخَطيئة، قَدْ غَابَ عَنهَا نُورُ الله، وَتَعيشُ حَالةَ تَنَكُّرٍ لله؟ فَيتمُّ فيهَا قَولُ الرَّبِّ عَلَى لِسَانِ نَبَيّهِ أَشعيا: ﴿هَذا الشّعبُ يُكْرِمُني بِشَفَتيه، وَقَلبُهُ بَعيدٌ مِنّي﴾ (أش 13:29).
ثُمَّ أنَّ استِخدَامَ العَدوِّ للظُّلمَةِ غِطاءً لِيَقومَ بِزرعِ الزّؤانِ الضَّار، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَظهَرُ عَلَى السَّطح، قَدْ لا يَعكِسُ أَحيانًا كَثيرَة، حَقيقةَ مَا يَقبَعُ في البَاطِن، وَيَربِضُ في الصُّدور! فَبَعضُ النّاسِ يَبدو حَملًا وَديعًا، وَلَكِنَّهُ في دَاخِلِهِ ذِئبٌ خَاطِف! يَظهَرُ بِهيئةِ الْمُسَالِمِ الَّلطِيف، وَلَكنَّهُ يُضمِرُ الشّرَّ وَيَكنُّ مَشاعِرَ العَدَاوَةِ والغَدر! البَعضُ يَبدو أَنَّهُ يُريدُ خَيركَ وَنَفعَك، لَكِنَّهُ يَتَمَنّى سُقوطَكَ وَيَفرحُ بِفَشَلِكَ!
لِذلكَ يا أَحِبَّة، مَعدنُ النَّاسِ الصَّحيح، لَيسَ فِيمَا يُظهِرونَ أَمَامَك، بَل فيمَا يخفونَ خَلفَ ظَهرِك! مَعدنُ النّاسِ الصَّحيح، لَيسَ مَا يُقالُ عَلَى الشِّفَاه، ولا هوَ ابتِسَامَةٌ ترتَسِمُ عَلَى الوُجُوه، بَلْ مَا يُحاكُ في القُلوبِ، ويُحاسُ في العُقول! مَعدنُ النّاسِ الصّحيح، لَيسَ فيمَا يُصنَعُ في النَّهار، بَل مَا يُزرَعُ في الّليل! مَعدنُ النّاسِ الصّحيح، لَيسَ وَأَنتَ في مَوفورِ قُوَّتِكَ وَأَوجِ عَطائِكَ وَخِدمَتِكَ، بل عِندَمَا تكونُ في أَضعَفِ حالاتِك، وَقِمّةِ فَشلِكَ وَعَجزِك!
تَمامًا كَمَا سَبَقَ وَأَنبَأَ سِمعانُ الشّيخُ مَريمَ قَائِلاً: ﴿وَأنتِ سَيَنفَذُ سَيفٌ في نفسِكِ، لِتَنكَشِفَ الأفكارُ عَنْ قُلوبٍ كَثيرة﴾ (لوقا 35:2). لِذَلِكَ في صلاتِك، أُطلُبْ مِنَ اللهِ أَنْ يَهَبَكَ الفِطنَةَ إلى جانِبِ الطِّيبَة.
مَاذَا نَعملُ إذًا؟! أَنَتَوَقَّفُ عَنْ صُنعِ الخَير لأنَّهم لا يَستَحِقّون، لا يُقَدِّرون، لا يُبادِلونَ الخَيرَ بالخَير؟ أَنقْلَعُ رُوحَ اللهِ السَّاكِنِ فَينَا، وَنَتَبنّى رُوحَ الشّرِّ والانتِقام، عَينٌ بِعَين وَسِنٌّ بِسن؟ أَنَتخلّى عَن كَونِنَا أبناءَ اللهِ والْمَلكوت، لِنُصبِحَ عَبيدَ الشّرّيرِ وَالخَطيئَة؟ كُلُّ الخَياراتِ مُتَاحَة، وكُلٌّ يَستطيعُ أن يَنقادَ وَراءَ مَا يَشاء، ويمضي في الطَّريقِ الّتي يَشاء. وَلكنَّني أَقول: الخَيرُ عِندَ الصَّالِحينَ طَبيعَة، وَالطَّبيعَةُ لا تُبَدَّل، مَهمَا أَصابَها! بَنو الْمَلَكوتِ لا يُبَدِّلونَ آَبَاهم السَّماويَّ، مَهمَا لاقُوا مِنَ النَّاس، بَلْ يَستَمِرّون في زَرعِ الخَيرِ وَالصَّلاح، مُفَوِّضينَ أَمرَهُم للهِ الطَّيب، رَبِّ الحَصَاد وَفَاحِصِ القُلوب، العالمِ بالخفَايا وَالخَبايا في جُحورِها، قَاضِيًا بِالعَدلِ والاستِقَامَة، وَفَارِزًا بينَ القمحِ الطَّيب، وَبَينَ الزُّؤانِ الخَبيث.
وَأَقولُ لِكلِّ الطَّيبين الخيّرين، عَمَلةِ الْمَلكوتِ الْمُخلِصين، وَإنْ جَارَتْ عَليهم الأيّامُ وَمَنْ فيها، مَا قَالَهُ القدّيسُ بولس، في رسالتِه إلى أهلِ رومة: ﴿لِتَكُنِ الْمَحبَّةُ بِلا رِياء. اِكرَهوا الشَّرَّ والزَموا الخَيْر. تَنَافَسوا في إِكرامِ بَعضِكُم لِبَعض. لا تُبادِلوا أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ. سَالِموا جَميعَ النَّاسِ إِن أَمكَن، عَلَى قَدْرِ ما الأَمرُ بِيَدِكم. لا تَنتَقِموا لأَنْفُسِكم، فَقَد وَرَدَ في الكِتاب: ((قَالَ الرَّبُّ: لِيَ الاِنتِقامُ وأَنا الَّذي يُجازي)). وَلَكِن إِذا جَاعَ عَدُوُّكَ فأَطعِمْهُ، وإِذا عَطِشَ فَاسْقِه. لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير﴾ (للنّص الكامِل راجع رومة 1:12-21)