المطران رمزي كرمو - تحتفل الكنيسة في 14 أيلول من كل عام بعيد الصليب المقدس، معلنة بذلك إيمانها وفرحها بتحقيق مشروع الله الخلاصي من خلال موت ربّنا والهنا على الصليب وقيامته المُمجّدة. يعود تاريخ هذا العيد الى القرن الرابع، حينما عثر الجنود الرومان على خشبة الصليب التي عُلِّق عليها الربّ المسيح وذلك بناءً على طلب هيلينا أم الإمبراطور قسطنطين، كما جاء في الصلاة الطقسية لهذا العيد والمثبَّتة في كتاب الحوذرا.
إن الصليب الذي كان في زمان الرومان وسيلة لإعدام المجرمين والخارجين عن القانون، أصبح لنا المسيحيين بعد موت المسيح عليه، آية الرجاء ووسيلة البلوغ الى الحياة الأبدية والعلامة التي تميّزنا. لقد كشف لنا ربّنا والهنا يسوع المسيح، له كل المجد والإكرام والسجود بموته على الصليب، سر الإله الواحد والثالوث، أي سر الله الذي هو محبة. لنقرأ ونتأمل فيما يقوله لنا يوحنا الرسول بهذا الخصوص: "ما ظَهَرَت بِه مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هو أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إِلى العالَم لِنَحْيا بِه. وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" (رسالة يوحنا الأولى 4/ 9–10).
إن الرب يسوع بموته على الصليب، يريد أن يقول لنا بأن سرّ الله الذي لا يدركه العقل البشري، لا يُعرَف ولا يُكشَف الا بواسطة أعمال المحبة التي ميزَتها الأساسية هي التضحية وبذل الذات من أجل الآخرين. “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يوحنا 15/ 13). إنّ العقائد الأيمانية، رغم أهميتها، تعطينا معرفة نظرية جامدة عن سرّ الله وإنها تعقّده أكثر مما تبسّطه، أما أعمال المحبة تمنحنا فرح الأختبار الحقيقي والمعرفة العملية لحضور الله فينا منذ حياتنا الحالية وهذا ما نفهمه من كلام يسوع الذي يقول: "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مسكنًا" (يوحنا 14/ 23). على ضوء هذه الآية نستطيع القول: بأنّ سرّ الله الواحد والثالوث لا يُكشف إلا بالمحبة. حيثما توجد المحبة هناك الله.
أما رسالة الصليب، فهي رسالة تَجسُّد الحبّ الألهي من أجل خلاص العالم، ولهذا إحتلت مكان الصدارة في حياة مخلصنا يسوع المسيح، إنه كان يتذكر آلام الصليب حينما كان يقوم بعمله الرسولي ونشاطه التبشيري، ولم يكن يتردد في إعلام التلاميذ بذلك قال: "ها نحنُ صاعِدونَ إِلى أُورَشَليم، فَابنُ الإِنسانِ يُسلَمُ إِلى عُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، فيَحكُمونَ علَيه بِالمَوت، ويُسلِمونَه إِلى الوَثَنِيِّين، فَيسخَرونَ مِنه، ويَبصُقونَ علَيه ويَجلِدونَه ويَقتُلونَه، وبَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم" (مرقس 10/ 33–34).
كذلك إحتلت رسالة الصليب مكانة كبيرة في حياة رسول الاُمم وشهيد الحبّ الإلهي القديس بولس، إنه يقول: “فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين، وأَمَّا لِلمَدعُوِّين، يَهوداً كانوا أَم يونانِيِّين، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه، لأَنَّ ألحَماقَةَ مِنَ اللّه أَكثَرُ حِكمَةً مِنَ النَّاس، والضُّعْفَ مِنَ اللّه أَوفَرُ قُوَّةً مِنَ النَّاس" (1 قورنتس 1/ 23–25). وفي مكان آخر يقول: "فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئاً، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب" (1 قورنتس 2/2). إنّ تأكيد مار بولس الرسول على رسالة الصليب، ما هو إلا تعبير عن إيمانه المطلق بضرورة موت يسوع على الصليب لتحقيق عمل التدبير الخلاصي الذي أراده الله منذ البدء، هذا ما نفهمه من رسالته الى أهل فيلبي: "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذاً صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (2/ 6-8). كذلك، الشهداء والقديسين الذين سبقونا على درب الشهادة ونشروا نور الإنجيل في العالم، تأملوا كثيراً فيما يطلبه يسوع من الذين يريدون أن يتبعونه حينما قال: "مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني، لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذًا" (لوقا 14/ 26-27).
على ضوء هاتين الآيتين، نستطيع القول، بأنه من غير الممكن أن نكون تلاميذ يسوع وأن نشاركه في عمل التدبير الخلاصي من دون التجرُّد من أقرب الناس إلينا وحمل الصليب والسير وراءه كل يوم. إن ألم الصليب هو ألم مُثمر ومصدر فرح ورجاء لأنه ناتج عن المحبة الصادقة والثقة العميقة بوفاء الله لوعده. لنسمع ونتأمل: “طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَاواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم" (متى 5/ 11–12). وأما بطرس الرسول الذي قَبِل الشهادة من أجل ربّه، فإنه يقول: “بلِ افرَحوا بِقَدْرِ مما تُشارِكونَ المسيحِ في آلامِه، حتَّى إِذا تَجَلَّى مَجْدُه كُنتُم في فَرَحٍ وابتِهاج. طوبى لَكم إِذا عَيَّركم مِن أَجْلِ اسْمِ المَسيح، لأَنَّ روحَ المَجْدِ، روحَ الله، يَستَقِرُّ فيكم" (1 بطرس 4/ 13-14).
نعم، إنها نعمة كبيرة أن نعيش آلام الرسالة كشهادة حية على حبّنا للمسيح المصلوب وكنيسته المقدسة. ترتيلة الشهداء التي نرتلها أثناء صلاة الرمش ليوم الاثنين، تذكّرنا بقوة الصليب التي اختبرها شهداء كنيسة المشرق الذين عاشوا في القرون الأولى. هذه بعض الأبيات من هذه الترتيلة: "رأى الشهداء صليب ربنا وهو ملطخ بالدم فأحنوا رقابهم"، "صليب المسيح أصبح جسرًا للشهداء فاجتاز منه الصدّيقون الى الوطن الذي لا حزن فيه"، "رأى الشهداء مرجانة في صهيون فسارعوا واشتروها بدم رقابهم"، "صليبك خلصنا، صليبك يخلصنا، صليبك نور لنفوسنا"، وهناك تراتيل وصلوات كثيرة أخرى تزخر بها ليتورجيتنا والتي تعبّر عن إيمان ومحبة الكنيسة المقدسة لصليب المسيح الحي والمُمَجَّد.
لنصلِّ ونطلب من أمنا العذراء مريم، أم الأحزان، التي رافقت ربّنا والهنا يسوع المسيح، له كلّ المجد والإكرام والسجود، الى صليب الجلجلة وشاركته آلامه، أن تُنَمّي فينا محبة الصليب، سرّ ورسالة، كي يكون لنا جسراً نصِل بواسطته إلى منزلنا الأبدي الذي هيأه لنا أبونا السماوي قبل إنشاء العالم.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلّوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة. مع الشكر ولنبقَ متحدين بالصلاة، رباط المحبة الذي لا ينقطع.