الأردن - الأب فارس سرياني - ﴿إِنَّ اللهَ يُريدُ أَنْ يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ، ويَبْلُغُوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ﴾ (1طيمو 4:2)
أَيُّهَا الإِخوَةُ والأَخَوَاتُ الأعِزّاء في الْمَسيحِ يَسوع. قَبلَ الخَوضِ في غِمَارِ النَّصِّ الإنجيلِيِّ لهذَا الأَحَدِ الثَّالِثِ والعِشرين مِنْ زَمَنِ السَّنَة، دَعُونا نَتَعَرَّفُ عَلَى جُغرافِيَّةِ الْمَنطِقَةِ الَّتي تَدُورُ فِيهَا أَحدَاثُ اليَوم. فَبَعدَ اعْتِمَادِهِ في مِياهِ الأُردُنِّ جَنُوبًا عَنْ يَدِ يُوحَنَّا، وخُرُوجِهِ إلى البَريّة، وَانْتِصَارِهِ عَلَى الْمُجَرِّب (مر 9:1-13)، نَرَى يَسوعَ يَصعَدُ إلى الجَلِيلِ شَمالًا. وهُنَاكَ عَلَى ضِفَافِ طَبريَّا، يختَارُ بَاكُورَةَ الرُّسُل، وَيُعَلِّمُ الجُموعَ، ويُجرِي الْمُعجِزَاتِ والآياتِ البَيِّنات، مُخمِدًا العَاصِفَة، مُطْعِمًا الجُموع، مُبرِئًا الْمَرضَى، مُقيمًا الْمَوتَى!
كُلُّ هَذَا إلى أَنْ وَصَلنَا الفَصلَ السَّابِعَ مِنْ بِشَارَةِ القِدّيسِ مَرقُس، والَّذي بَدَأنا قِرَاءَتَهُ الأحَدَ الْمَاضِي. حَيثُ اندَلَعَ الجِدَالُ بَينَ الْمَسيحِ ورُؤسَاءِ اليَهود، حَولَ مَفهومِ الطَّاهِرِ والنَّجِس. فَبَيَّنَ لَهُم أَنَّ النَّجَاسَةَ الحَقَّة لَيسَت مَسأَلةَ طَعَامٍ وشَرَابٍ ومُمَارَسَاتٍ سَطحِيَّة، بِقَدرِ مَا هِيَ حَالَةٌ تَنْبَعِثُ مِنْ بَاطِنِ الإنسَانِ فَتُلَوِّثُهُ!
بَعدَ ذَلِك كُلِّهِ يخرجُ يَسوعُ وَيمضِي إلى صُورَ مَارًّا بِصَيدا، ومُجتَازًا الْمُدُنَ العَشر، كَمَا يَروي لَنَا إنجيلُ هَذَا الأَحَد. هَذهِ الْمَنَاطِقُ هِيَ في حُكمِ النَّجِسِ عِندَ اليَهود، تَسكُنُهَا أُمَمٌ أَغيَارُ لَيسَت مِنهُم. أَمَّا هُمْ فَقَدْ كَانُوا مُتَيقِّنينَ مِنْ طَهَارتِهم، وَيَرونَ في كلِّ مَنْ هُو غَيرُ يَهودِيّ كُتلَةَ نجَاسَة!
والْمَسيحُ الثَّائِرُ عَلَى كُلِّ هَذهِ الْمَعايِيرِ الْمُختَلَّة، يَذهَبُ إلى تِلكَ الأُمَمِ الوَثَنيَّة، مُجرِيًا أَيضًا أَعمَالَ رحمَةٍ إلَيهَا، مُؤَكِّدًا بِذَلِكَ أَنَّ رِسَالَةَ الْمَلَكُوتِ والخَلاص الَّتي أَتَى يَحمِلُهَا، هِيَ رِسَالةٌ لِلجَميعِ، دُونَ احتِكَارٍ أَو احتِقَار. عَلَى حَدِّ قَولِ الرَّسُولِ بُولس: ﴿إِنَّ اللهَ يُريدُ أَنْ يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ، ويَبْلُغُوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ﴾ (1طيمو 4:2). أَي الخَلاصُ بالْمَسيحِ الّذي هُوَ وَحدُهُ الطَّريقُ والحَقُّ والحَيَاة!
أَحيَانًا يَا أَحِبَّة، في بَعضِ رَعَايانَا، خُصُوصًا تِلكَ الّتي يَغلُبُ عَلَيهَا الطَّابِعُ العَشَائِريُّ والْمَنَاطِقيّ، نَرَى آَثَارًا لِتِلكَ النَّظرَةِ البَغيضَةِ الّتي حَاربَهَا يَسوع! فَبَعضُ الكَنَائِسِ والرَّعَايَا يُنْظَرُ إِلَيهَا عَلَى أَنّهَا "كَنيسَةُ العَشيرَة"، فَكُلُّ مَنْ هُوَ لَيسَ مِنَ العَشيرَةِ أَو البَلدَة، يُنظَرُ إِلَيهِ مِنْ قِبَلِ البَعضِ نَظرَةَ ازدِراءٍ وانْتِقَاص، لِأنَّهُ غَريب! وهِيَ نَظرةٌ مُؤسِفَةٌ ومَعيبَة. حَتّى التَّلامِيذُ أَنْفُسُهم في لَحظَةٍ مَا كَانُوا مُصَابينَ بهذهِ الآَفَة! أَلمْ يَأتي يُوَحَّنَا إلى الْمَسيحِ قَائِلًا: ﴿يا مُعَلِّم، رَأَينَا رَجُلًا يَطرُدُ الشَّياطِينَ بِاسمِكَ، فأَرَدْنا أَنْ نَمنَعَهُ لأَنَّه لا يَتبَعُنا﴾ (مر 38:9).
بَيتُ اللهِ بَيتٌ لِكُلِّ مَنْ عَبَدَ اللهَ بالرُّوحِ والحَقّ (يُو 24:4). فَاللهُ لَيسَ إِلَهَ عَشيرةٍ ولا عَائِلَةٍ ولا آَفَاقَ ضَيِّقَة، بَلْ هُوَ رَبُّ الكُلّ. والْمَسيحُ بِإجْرائِهِ الآَيَةَ لِهذَا الأَصمِّ مِنْ خَارجِ آَل إسرائِيل، إنَّمَا يُؤكِّدُ أَنْ لا حَصرَيّةَ في الخَلاصِ ولا إِقصَاء، فَرِسَالَتُهُ عَابِرةٌ لِكُلِّ الشُّعُوب، تَتَخَطَّى الأُطُرَ القَومِيَّةَ والعِرقِيَّةَ والْمكانِيَّةَ الضَّيِقَة. ولِهذَا قَالَ الْمَسيحُ مُخَاطِبًا السَّامِريّة: ﴿تَأتي سَاعَةٌ فِيهَا تَعبُدونَ الآَب لا في هَذَا الجَبَلِ ولا في أُورَشَليم... فِيهَا العِبادُ الصّادِقُون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ فمِثْلَ أُولِئكَ العِبادِ يُريدُ الآب﴾ (يو 21:4، 23).
يا أَحِبَّة، هَذَا الأصَمُّ كَانَ قَبلَ لِقَاءِ الْمَسيحِ شيئًا، وأَصبحَ شَيئًا مُغَايِرًا بَعدَ لِقَائِهِ! فَمِنْ إنسَانٍ مُقَيّدٍ مُصَاب، إلى إنْسَانٍ طَلِيقٍ مُعَافَى. فالِّلقَاءُ مَع الْمَسيحِ لِقَاءٌ يَشفِي ويُحرِّرُ الإنسَانَ مِنْ قُيُودِه، ويُعيدُ إِلَيهِ كَرامَةَ أَبنَاءِ الله. لِأنَّ القَيدَ ذُلٌّ وعُبُودِيَّة. لِذَلِكَ اِبتَهَجَ صَاحِبُ الْمَزاميرِ باللهِ الَّذي أَعتَقَهُ قَائِلًا: ﴿آَهِ يَا رَبِّ فَإنِّي عَبدُكَ لَقَد حَلَلتَ قُيودي، فَلَكَ أَذبَحُ ذَبيحَةَ الحَمْد﴾ (مز 16:116-17). والقَيدُ أَيضًا أَلَمٌ ومُعَانَاة، كَمَا قَالَها إبراهيم ناجي في قَصيدَتِهِ الأَطلال: "آهِ مِنْ قَيدِكَ أَدمَى مِعصَمي".
كُلُّنَا لَنَا مِنْ قُيُودِ الرُّوحِ نَصيب! فالبَعضُ مُقَيَّدٌ بالكِبرياءِ والغُرور، والبَعضُ بالكَذِبِ والنِّفَاق، والبَعضُ بالغِشِّ والفَسَاد، والبَعضُ بالطَّمَعِ والجَشَع، والبَعضُ بالأَشوَاقِ والرَّغَبَاتِ الرَّدِيئَة، وغَيرِهَا الكَثير... فَهَلًّا لَجَأنا إلى الْمَسيحِ كَمَا لَجَأَ الأَصَمُّ، مُلتَمِسين مِنهُ بِصِدقٍ شِفَاءً وتَحرير.
وإنْ كُنَّا كُلُّنَا بحَاجَةٍ إلى رَحمَةِ اللهِ وحَنَانِه، ولَنَا مِنَ القُيودِ مَا هُوَ مُعلُومٌ ومَا هُوَ مَكتُوم، فَهَلَّا تَعَلَّمنَا الكَفَّ عَنِ الحُكمِ عَلَى بَعضِنَا البعض، والتَّوقُّفَ عَنِ ازدِرَاءِ واحتِقَارِ الغَيرِ، وادِّعَاءِ الصَّفَاءِ والنَّقَاءِ عَلَى حِسَابِ الآَخَرين... بَلْ، كَمَا صَنَعَت الجَماعَةُ لَمَّا أَتَتْ بالأَصَمِّ إلى يَسوُع، فَلْنَكُنْ نَحنُ لِبَعضِنَا البَعض قَنَاةَ رَحمَةٍ لا سَدًّا يمنَعُهَا، وسَبَبًا يُؤُولُ إلى الإيمانِ والخَلاص، لا حَجَرَ عَثرَةٍ يُؤَدِّي إلى الجُحُودِ والابتِعَاد.