مسار الحقيقة... أين نحن؟ (1)

المنسنيور

العراق - المونسنيور بيوس قاشا - إننا نعيش اليوم طريق الجلجلة وما تحمله من مآسي وصعاب في مسيرة هذه الحياة، وبكل صراحة لا زلنا مشتّتين ورُحَّل من بلدنا إلى بلد آخر من أجل لقمتنا وهدوئنا وعيشنا. كما نحن لا زلنا على غير رأي واحد، فكل جماعة لا تتفق مع أخرى، وكل واحدة تفتش عن مصالحها ومطالبها وأهدافها وغاياتها، وهذا المنحى يجعل رسالتنا الحقيقية المسيحية الإنجيلية تضيع وإرادتنا تموت والسبب هو رفض كل ما هو لغير إرادتنا. وبسبب ذلك أُصبنا بأمراض وعاهات لا تُعَدّ ولا تُحصى، فلا ننام والكسل يعشعش في عقولنا وكأننا مَلَكنا الدنيا وما فيها، فضاعت عبرها حتى ساعات مستقبلنا وآمال أجيالنا والتي ستحاكمنا يوماً لأننا تركنا الأجير يعمل ما يشاء (يو8:10) والويل لنا لأننا لم نكن لها أمناء.

ففي صبيحة التاسع من شباط عام 2010 استبشرنا خيراً حيث أُعلن حينها عن تأسيس مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق، حينها تنفس المؤمنون وفي بلدي بالخصوص رائحة المسكونية والتي كنّا ننشدها ومن زمن بعيد. ومن ضمن كلمات البيان كان بأن المجلس سيضطلع بتنشيط الحوار والمبادرات المسكونية (ربما المنسيّة) بين الكنائس وبين الرئاسات، وانفتاح الواحد إلى الآخر. كما تضمن البيان بنداً خاصاً في العلاقات مع الأخوة المسلمين، إضافة إلى قضية التعليم المسيحي والعمل على تشريع العمل في الأحوال الشخصية للمسيحيين في العراق وتقرير عن التزام المسيحيين في الحياة العامة ضمن حقوق المواطنة والمشاركة وبناء الوطن الواحد. وضمّ المجلس من يومها أربعة عشر طائفة (كنيسة) والمعترف بها من قبل الدولة العراقية... وهذا ما جاء في الجريدة الرسمية للوقائع العراقية الصادرة بالعدد 2867 في 18/1/1982، ولا زلنا ننتظر حتى اليوم.

وفي 3 كانون الثاني 2017 تلقّينا حينها نبأً من قناة عشتار الفضائية بأن رؤساء مجلس الطوائف المسيحية في العراق قد عقدوا اجتماعاً في كنيسة الروم الأرثوذكس ببغداد وأعلنوا عن إعادة تأسيس المجلس بعد انسحاب الكنيسة الكلدانية، ولا زلنا حتى الساعة بين الإعادة والانسحاب ولكن ما العمل؟ وفي التاريخ نفسه صدر بيان من الرئاسة البطريركية الكلدانية أُعلن فيه عن عدم ارتياح الرئاسة الكلدانية لهيكلية مجلس الطوائف المسيحية وتفعيل دوره، فهو غير معترف به من قبل الدولة ولا يمثل أي جهة رسمية، ودعا إلى التعديلات التي يجب أن تكون.

والحقيقة يجب أن تقال، ففي مناسبات ولقاءات عدّة قدّمتُ نفسي لخدمة المجلس إعلامياً ولحد الساعة ولا زال الجواب يأتيني بالصمت أو بعدم الجواب أو ببسمة خفيفة لا يبقى ظلّها إلا ثوانٍ قليلة. وقالها لي أحدهم مرة "ليس هناك مَن يرشّحك في هذا المجال أثناء الاجتماع ولا حتى من الأقربين" حينها لم أكن أعلم ما السبب، ولكن ما علمتُه أن أحد كبار الزمن ومعه آخرين نشر صورتي بعد تشويهها لينال من إهانتي من أجل غاية في قلبه وقلوبهم، وقالوا عني ما شاءوا، ولا يعلمون أن الرب فاحص الكلى والقلوب إذ قال:"ليس خفيٌّ إلا سيظهر" (لو17:8) ولم أعمل شيئاً إلا طلبتُ لهم الغفران والصفح عن عملهم هذا، فغايتي ما هي إلا أن أكون قولاً وكلمةً من أجل خدمة كنيسة العراق بالنِعَم القليلة التي أعطاني إيّاها رب السماء وليس كبار الزمن والذين يدّعون ذلك. وأمرتُ نفسي أن أكون دائماً أميناً ووفياً رغم ما حصل لي، وربما هنا أعتذر عن قوة العبارات والتي ستُحسَب عليَّ إذ يقولون أنها ليست في محلّها، فالمهم أن تقول وتفكر وتعمل ما يشاؤون وهكذا يريدون فليكن، وغايتي الأولى والأخيرة أن أكون شاهداً للحقيقة التي ستظهر يوماً فالرب يقول "قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8) وهذا ما حصل إذ اكتشفتُ أن المسيرة مع البشر وكبار الزمن مؤلمة جداً وإنها تحمل المآسي ضد مَن لا يعمل إرادتهم وحتى يصل الأمر بالشاهد للحقيقة إلى الاستشهاد من أجل هذه الحقيقة.

أقولها وبكل فخر واعتزاز بنعمة الرب، والأغلبية المتواضعة تُدرك ذلك، فأنا لستُ غريباً عن بغداد وإن كنتُ من الحدباء، فقد قاسيتُ كثيراً من الحروب التي مرّت علينا، ولم أترك بغداد كما تركها الكثير من الرعاة خوفاً من هول الصواريخ والقنابل، ولأول مرة أبوح بسرٍّ أن أحد رجال المعابد قال لي وطلب مني وبإلحاح أن أترك بغداد والكنيسة أثناء الحروب ورفضتُ ذلك، وبقيتُ مع أبناء الرعية ولا زلتُ لحدّ الآن أعمل بما أعطاني الرب بعد (45) سنة خدمة، فأنا لم اقترف إثماً بتقديم ذاتي لخدمة الرب وخدمة أبناء الرعية والمجلس "فالراعي يعرف رعيته أما الأجير فلا" (يو11:10-12) وإنْ كان البعض لم يحبّذ ذلك ربما لغاية في قلوبهم وهذا ما قلتُه سابقاً.

نعم أقولها: إننا لا زلنا نعيش في زمن لا نُحسَد عليه، فهو زمن يذكّرنا بالمآسي والتهجير وداعش وأخرى كثيرة وعديدة وما حلّ بنا. فكثرة المآسي والحروب وما عانيناه منذ 2003 وحتى اليوم لا يوصَف ولا يتصوّره إلا الأعداء الذين سرقوا ونهبوا وباعوا المعابد وأحرقوا كل شيء، ولم يبقَ لي ممّا أملك من كتب وهدايا إلا رمادها، وربما نعتنا الدواعش أخيراً بالكفّار وبتسميات مقيتة أخرى، فليكن.

وفي مقابلة خاصة مع الأمين العام لمجلس الطوائف (الكنائس) المسيحية في العراق آنذاك عام 2010 والتي نُشرت في مجلة الزنبقة الغرّاء والتي كانت تصدرها رعيتي مار يوسف سألتُه حينها وقلتُ له: حينما نقول يا سيدنا "طائفة" ألا يقودنا ذلك إلى التفكير بالعنصرية الطائفية وخاصة حينما نقول "رئيس طائفة" أو "الطائفة الفلانية"؟ فأجاب: ذلك صحيح ولكن علينا أن نستخدم كلمة "طائفة" كما تستخدمها جريدة الوقائع العراقية الرسمية. ولكن، قلتُ له، إن اسم "طائفة" كان من وضع بشري يعني من وضع العثمانيين لسهولة تنفيذ حكمهم وثبات إرادتهم، ولكن اليوم حينما تقول لواحد أنك طائفي فتلك كلمة غير لائقة، وهذه إرادتهم.