رموز الليل والظلام في حياتنا (1)

الليل والنهار

أشخين ديمرجيان - "نيقوديموس" اسم يوناني معناه "المنتصر على الشعب". كان نيقوديموس واحدًا من رؤساء اليهود وعضوًا في "السنهدريم" (كلمة يونانيّة استعملها اليهود للدلالة على المجلس الكهنوتي الأعلى لديهم ، ويتكوّن من ٧١ عضوًا ويُعَدّ بمثابة محكمة العدالة للحكم في مخالفات الناموس، وفي سلطته إصدار الأحكام وتنفيذها، وله الحق في القبض على من يشاء). لذلك تمتّع نيقوديموس بمركز مرموق على أساس شخصيّته الأدبيّة ونشاطه الديني. أتى نيقوديموس الى السيّد المسيح في الليل خفيةً (حتى لا يراه احد) ليشاوره ويباحثه ويستوضح الأمور التي استعصى عليه فهمها. وقدّم له السيّد المسيح حقيقة خطيرة من أهمّ الحقائق في المسيحيّة الا وهي "حاجة الإنسان إلى الولادة من فوق، من جديد، أي الولادة الثانية الروحانيّة".

رموز الليل والظلام في حياتنا

في هذا المشهد الليلي من الانجيل الطاهر، جاء نيقوديموس مُتسللاً الى المعلّم في العتمة، من باب الحرص والحكمة والفطنة خوفًا من اليهود. نيقوديموس لا يريد أن يكشف علنًا خبر مجيئه الى السيّد المسيح. الظلام يقبع في قرارة نفسه مع أنّه يتمتّع بامتيازات كثيرة في المجتمع اليهودي، وهو يشعر بالنقص وعدم الاكتفاء والرضى، ولكنّه يجهل ما ينقصه وما يجعله قلقًا. ضميره غير مرتاح وقلبه خاوٍ خالٍ غير سعيد. يرغب نيقوديموس في إرضاء الله بشكلٍ أفضل من غير أن يعلم عن الطريقة، ويحبّ امتلاك ما ينقصه ولكنّه لا يدري عمّا يبحث. إنّه يعيش في دوّامة حاله حال الكثير من الناس والحكومات في الوقت الحاضرالذين يعيشون ظلمة فقدانهم للحقيقة.

وإذا استعرضنا رموز الليل نجد أنّه يرمز إلى "قساة الرّقاب" وظلمة تجبّرهم وتّسلّطهم وظلمهم بعنجهيّة وجبروت. كما ويرمز الظلام الى ظلمة تجويع الناس وإفقارهم. أضف الى ذلك ظلمة الحروب والقتل والنفي والأسْر. كأنّي بالليل يرمز الى ظلمة المصالح الخاصة التي تعمي العيون والقلوب. ظلمة الأنانيّة والاستعلاء والرفض: رفض سماع صوت الحزانى والمساكين والمهمّشين والأرامل والأيتام والمرضى والمُعاقين، ورفض كامل لصوت السماء والعدالة... وتُشير أيضًا الى ظلمة الحسابات الدنيئة الرخيصة، وظلمة التمسّك بالسلطة كأنّ العالم كلّه مُلك الحاكم المُتسلّط. ظلمة الانفلات باسم الحرية والتحرّر والانفتاح. ظلمة المساومة على أغلى ما في الانسان من كرامة وشرف ومروءة ونخوة باسم الرقي والتمدّن... للأسف هذه الظلمة تُمثّل ألوف مؤلّفة من الناس في الزمن الحالي.

نور الايمان

ما أحوجنا الى النور.. فقط بصيص من نور.. وشعاع من نور الايمان. إيمان نيقوديموس قاده الى نور المسيح. لقد أتى نيقوديموس الى النور ولكن "من وراء الكواليس". أقبل الى يسوع عن طريق الأنفاق الخفيّة خوفاً من كلام الناس. لأنّه ينتمي إلى جماعة الفريسيين المُتعّصبة التي تقاوم المسيح وتعاليمه بكلّ قواها. والمعروف عن هذه الطائفة اليهودية التعصّب الديني الأعمى، والتقيّد بقشور الدين دون الجوهر واللباب. كون نيقوديموس أحد رؤساء هذه الطائفة أي "رابي"، فلا بدّ أن يكون أحد الذين اشتركوا في مقاومة السيّد المسيح وتعاليمه. ولكنّه بعد أن سمع تعاليمه التي تنادي بالمحبة والغفران وعدم التعلّق بالدنيويات، وبعد أن رأى المعجزات التي يعملها، تعجّب كغيره من اليهود بأقواله ومعجزاته، فأراد أن يتقابل معه ليعرف الحقيقة، وسأله في تلك الليلة -التي قَلَبَت كيانه وأفكاره رأسًا على عقب- قائلاً:

"يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه. أجاب يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله. قال له نيقوديموس: كيف يُمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ، ألعلّه يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟ أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يوحنا 3 : 1 -6).

ضرورة المعمودية للأطفال أي الولادة الثانية

وبعد حوار طويل مع السيّد المسيح فهم نيقوديموس معنى "الولادة من فوق" أو "الولادة الثانية". فهي لا تعني مُطلَقًا الولادة الجسديّة بل تأتي بعدها. والقصد من الولادة هذه "المعمودية". المعمودية تشمل الأطفال أوّلاً، ويُفضّل تعميد الطفل بعد مرور ثمانية أيام على ولادته، لأنّنا لا نضمن بقاء الطفل على قيد الحياة. والذي لا يقبل سرّ المعمودية يبقى جسداً فقط لأن المسيح شدّد على أنّ "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح".

مع السيّد المسيح تتّضح لنا الرؤية على ضوء المعرفة الصحيحة، وبشعاع الإيمان نسأله: "يا معلم نحن نَعلَم أنّك المسيح وأنّ الله هو الذي أرسلك، ساعدنا كي نتغيّر ونُخلق من جديد، ونغيّر المجتمع حتى يحقّق العدالة والخير، ونحقّق كلّ القِيَم التي تنهض بالكون الى الأفضل والأجمل، إنّه حلمنا وليته يتحقّق. وليتنا نحمل دوماً حضارتك "حضارة المحبّة والتسامح" من أجل تحرير البشريّة من ظلماتها الحوالِك".